تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاجتماع رفيع المستوى حول الانتقال إلى الديمقراطية: التحديات والفرص الاقتصادية بعيداً عن الشعبوية

2 أيار/مايو 2013
الرباط، المغرب

كلمة معالي الدكتورة ريما خلف

وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للإسكوا

معالي وزير الدولة السيد عبد الله باها،

معالي الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بوزارة الشؤون العامة والحكامة السيد محمد نجيب بوليف،

أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة،

الحضور الكريم.

أودّ بدايةً أن أرحب بكم جميعاً أطيبَ ترحيب باسم زميلاتي وزملائي الأمناءِ التنفيذيين للجان الإقليمية للأمم المتحدة. وأتقدّم من جلالة الملك بجزيل الشكر على رسالته الملكية السامية الموجهة لاجتماعنا ومن رئيس الحكومة السيد عبدالإله بن كيران، بعظيم الامتنان لاستضافة هذا الاجتماع في ربوع المملكة المغربية. واسمحوا لي أن أخص بالشكر وزارة الشؤون العامة والحكامة، شريكتنا في عقد هذا اللقاء، ومركز بحوث التنمية الدولية الكندي لتمويله مشروعنا هذا. هذا الاجتماع هو الاجتماع الإقليمي الأول الذي نعقده منذ أصبحت المملكة المغربية عضواً في الإسكوا في صيف عام 2012. وهو مناسبة للإعراب عن سرورنا بانضمام هذا البلد إلى أسرتنا، بلداً ناهضاً، زاوج بين عروبته وعمقه الإفريقي، وصالَح بين أصالته وطموحات الحداثة، فأوغل في عالم اليوم منفتحاً على الآخر، معتزاً بثقافته العريقة، ممتشقاً أجمل ما في تاريخه وتراثه. السيدات والسادة، في أعقاب اندلاع ثورات الحرية والعدالة والكرامة، حلّق العرب بآمالهم عالياً. خلعوا عنهم ثوب الخنوع والمهانة، واسترجعوا مشروع نهضة كانوا قد اقتلعوه من أحلامهم يأساً واستكانةً. آمنوا مرة أخرى بقدراتهم وأعادوا اكتشاف روحهم التواقة إلى الحرية والعزة. آمنوا بأن الإجحاف المزمن سيزول، وأن الازدهار آتٍ لا محالة. بعد عامين على اندلاع الثورات ، يحل التشاؤم والقلق في نفوس كثيرين. فما انتظروه من ازدهار لم يتحقق. الفقر لم ينحسر، والبطالة أصبحت أكثر انتشاراً وإيلاما من ذي قبل. وفي حين استمعت بعض القيادات العربية، كما في المملكة المغربية، إلى صوت شعوبها وشرعت في تنفيذ برامج إصلاح واعدة، جعل آخرون أصابعهم في آذانهم، وأقحموا بلدانهم في دوامة من العنف والقتل والدمار. والآن تطالعنا الصحافة العالمية بتحذيرات من شتاء قارس يستلّ روح الربيع العربي. وتتعالى أصوات تحذر من إهدار حقوق المرأة وقمع الحريات الشخصية وانتهاك حقوق الأقليات. وبات البعض يدعو للتدخل حماية لهذه الفئات المستضعفة والمقهورة. وخرج البعض الآخر عن رزانته المعتادة، إذ لم يعد يرى في جنوب المتوسط سوى هلال إسلامي يعيد إحياء مخاوف زعم أنه دفنها قبل عقود. فهل حقاً خذلت الثورة روادها؟ هل من مبرّر لخيبة أمل العربي، وجزع الآخر؟ لا يختلف اثنان على أن الضائقة الاقتصادية اشتدت في ما يسمى ببلدان الربيع العربي، فدفع الفقر والإحباط بأعداد كبيرة مجدداً إلى الساحات والشوارع. وتلاقى هؤلاء مع آخرين خاب أملهم من التحول السياسي، فأصبحت ميادين التحرير، فسحةُ الأمل ورمزُ الحرية بالأمس، ساحاتِ صراع يعصف بالأمن وبالسلم المجتمعي. ودخلت هذه الدول في حلقة مفرغة. غياب الاستقرار يرعب المستثمر والسائح، فيضعف النمو ويفاقم العجز في موازنة الدولة وفي ميزان المدفوعات. وهذا كله يولد تضخماً وبطالة وفقراً، فيزيد الاحتقان، ويندفع المتضررون بأعداد متزايدة إلى الشارع استنكاراً واحتجاجاً، يذهب بما تبقى من الأمن والاستقرار. تدهور الوضع الاقتصادي ليس غريباً على الثورات، بل هو سمة ملازمة لمراحلها الأولى. فالثورة تقوم أصلاً ضد وضع شاذ، حيث الخلل والإجحاف والإقصاء. ونجاحها يتطلب في أغلب الأحيان هدم الفاسد من هياكل الدولة، وإعادة بنائه على أساس الحرية والعدل والمشاركة الشعبية. و بين الهدم وإعادة البناء لا بد من مرحلة مؤلمة كما علّمتنا تجارب الآخرين. إلا أن الأزمات التي تلمّ بزمن الثورات العربية لا تقتصر على الاقتصاد. فالخطر الأكبر الذي يهددها حملة شرسة تقودها قوى الثورة المضادة. وقد نهجت في ذلك استراتيجية أداتها تفتيت قوى الثورة وإشغالها بتناقضات ثانوية تمنعها من إنجاز البناء الديمقراطي، أملاً في أن تطول المرحلة الانتقالية وتشتدّ الضائقة الشعبية، فتضيق الجماهير ذرعًا بالثورة، ويصبح المطلب الشعبي عودةً إلى النظام القديم بحلة جديدة. وقد التقت هذه الاستراتيجية مع أخرى لقوى خارجية رأت في الثورات العربية تهديداً لمصالحها، فعكفت على تأجيج الصراع الداخلي في بعض البلدان. بعضها رأى في مشهد الفوضى والاقتتال رادعاً لشعوبها، وبعضها الآخر توسل الفوضى لتحويل الصراع في المنطقة من صراع ضد الاحتلال والتبعيّة والتخلف إلى اقتتال بين الملل والنحل والإثنيات، اقتتالٍ يضعفهم جميعاً ويقوض قدرتهم على التصدي لهذه القوى والتحرر منها. واهمٌ من اعتقد أن القوى المضادة للثورة سترفع الراية البيضاء مرحبة بنظام ديمقراطي يجردها من مكاسبَ استمتعت بها لعقود دون وجه حق. ولنا في التاريخ عبر، ليس أبعدها إسقاط مصدق، رئيس وزراء إيران، في عام 1953 على يد جهاز استخبارات دولة عظمى بالتنسيق مع قوى إيرانية داخلية. وبدايةُ مصدق كانت شبيهة ببعض مشاهد الربيع العربي. فقد اضطر الشاه إلى إعادة تعيينه رئيساً للوزراء تحت ضغط شعبي عارم. حوصر مصدق اقتصادياً لتجريده من الدعم الشعبي. وفي الوقت نفسه، عمل جهاز الاستخبارات الأجنبي بالتعاون مع أطراف داخلية على إضعافه وتشويه سمعته، بشتى الوسائل السياسية والإعلامية ، وحرك التظاهرات حتى أصبحت حدثاً يومياً ضاق به الناس. وما إن تحقق له ذلك، بدأ بتحريك تظاهرات وتظاهرات مضادة في آن، زرع فيها محرضين للقيام بأعمال شغب وتدمير. تصاعد العنف ودبت الفوضى. فتدخل الجيش، وسقط مصدق. لم يخلِف مصدق نظام ديمقراطيٌ يلبي طموحات الجماهير التي أمّت الشوارع صادقة، بل عاد الاستبداد بوجه أكثر قبحاً، وقمع أكثر شراسة. الحضور الكريم، نجتمع اليوم دعماً للإصلاح والتحول الديمقراطي في البلدان العربية. وهذا الاجتماع هو الثاني في سلسلة حوارات تتناول التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تواجه عملية بناء الحكم الديمقراطي الصالح في المنطقة العربية. وهذه المكوّنات مترابطة لا تنفصل، إذ لا يقدَّرُ نجاحٌ لأي منها ما لم يستكمل بإصلاحات في جميع المكونات الأخرى. فالتحوّل الديمقراطي المنشود لن يستقيم، ما لم يدعمه بناء اقتصادي متين، يشارك الجميع في تشييده وفي الإفادة من ثماره. والمجتمع لن يستطيع دعم الاقتصاد بقوى عاملة مبدعة ومنتجة ما لم ينفض عن نفسه غبار الاستكانة والقبول بالأدنى، وقد تراكم عليه طوال عهود القهر والاستبداد. والاقتصاد لن يزدهر ما لم ينغرس في حكم ديمقراطي عادل يحارب الفساد والتبعية. لا شك في أن هذه الطموحات كبيرة، ولكن الثورات العربية قد نجحت في نقلها من حيز المرغوب الممتنع، إلى حيز القريب الممكن. ومع أن الدرب إلى الزمن الجديد وعرة ومحفوفة بالصعاب، ليس أمام العرب خيارات كثيرة. فقطار التحول الديمقراطي الذي انطلق بالمنطقة لن يعودَ إلى الوراء. فإما أن يصل إلى المقصد بأمان أو يتدهور ومعه الشعوب والأوطان. وأملي أن يكون لقاؤنا هذا دعماً للمشهد الأول وطرداً للمشهد الثاني. فلا بديل أمام الأمة العربية سوى أن تخلع عن نفسها قيود القمع والترهيب وسلب الحقوق التي كبّلتها مرة من محتل أجنبي ومرة من حاكم مستبد. ولا خلاص سوى ببناء مستقبل، تنعم فيه الشعوب بالحرية والكرامة، في كنف حكم عادل ينبثق من إرادة الشعب، لا يستبعد أحدًا لمجرد انتمائه إلى دين أو عرق أو جنس. في بناء هذا المستقبل تفي الثورة بوعدها. ولا مبرر لأحد سوى من في نفسه سوء أن يجزع من حرية العرب. وحسبنا في هذه المرحلة طموحٌ وحلمٌ يُطِلّ بها إلى غد مشرق.

الأمين التنفيذي: