وكيل الأمين العام للأمم المتحدة
والأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)
دعم الاستقرار والتنمية في الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط
المؤتمر الإقليمي الثامن لمركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الجيش اللبناني
بيروت 20 شباط/فبراير 2018
أصحاب المعالى والسعادة،
الحضور الكريم،
صباح الخير جميعاً،
أشكركم على دعوتِكم لي للتحدثِ في هذا المؤتمر.
تعيشُ المنطقةُ العربيةُ ظروفاً عصيبة، من أزماتٍ وصراعاتٍ طال أمدُها وعقودٍ من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين خلّفت أضراراً مباشرة وغير مباشرة، قوّضت الجهودَ التي تبذلها الدول العربية في تحقيق التنمية المستدامة. وفي ظلِ هذه الظروف، سأركزُ في كلمتي على الأبعادِ المتداخلةِ للاستقرارِ والتنميةِ في ثلاثةِ محاور أساسية. في الأولِ منها سأتناولُ خطةَ التنميةِ المستدامةِ لعام 2030 كإطارٍ لتحقيقِ التنميةِ والاستقرارِ وتعزيزِ المسارِ الديمقراطي؛ وفي الثاني سأتطرقُ إلى أهمِ التحدياتِ الماثلةِ أمام تنفيذِ هذه الخطةِ وضرورةِ التصدي لها لتكونَ التنمية الأداة الأساسية لتمتين التعايش السلمي ودعم المسار الديمقراطي بعد النزاعات؛ وفي المحور الثالث سأتطرق إلى كيفية تعزيز القدرات الوطنية والإقليمية للتخفيف من أثار الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني والمنطقة العربية.
المحور الأول، خطة التنمية المستدامة لعام 2030 كإطار لتحقيق التنمية والاستقرار وتعزيز المسار الديمقراطي
ستدور خلال أيام المؤتمر مواضيع النقاش المتداخلة والمترابطة حول البنى الرئيسية للاستقرار والتنمية في الدول العربية. فالمسار الديمقراطي لا يستقيم من غير التعايش السلمي، والتعايش السلمي هو المدخل لتحقيق التنمية المجتمعية، والتنمية المجتمعية هي أساس للتنمية الاقتصادية المستدامة. وهذه المواضيع كلها تقع في صميم أهداف خطة التنمية المستدامة لعام 2030.
وتنتهج هذه الخطة بتسليمها أن التنمية المستدامة لا تتحقق في غياب السلام والأمن واحترام حقوق الإنسان نهجاً شاملاً ومتكاملاً. فقد أكدت على ضرورة بناء مجتمعات سلميّة حاضنة للجميع، تكفل المساواة بين أفرادها في التماس العدالة، وأكّدت أيضاً على سيادة القانون والحكم الرشيد، وعلى بناء مؤسسات تتسم بالشفافية وتخضع للمساءلة. وقد دعت الخطة إلى اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لإزالة العقبات التي تحول دون قدرة الشعوب على ممارسة حقها في تقرير المصير، وهو شرط لازم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
المحور الثاني، التحديات الماثلة أمام تنفيذ خطة عام 2030 في الدول العربية
وتعترض تنفيذ هذه الخطة الطموحة في المنطقة العربية تحديات كبيرة، منها ما هو ناشئ من البيئة العالمية الراهنة غير المساعدة، ومنها ما هو ناشئ من الظروف التي تمرّ بها المنطقة.
فعلى المستوى العالمي،
- تراجع دور وفعالية الدبلوماسية المتعددة الأطراف في حل النزاعات التي طال أمدها والنزاعات الناشئة، كما تزايد استخدام القوة والعنف، وتصاعد نفوذ التيارات الأصولية والانعزالية المتطرفة في بلدان الشمال والجنوب؛
- وتفاقمت الصعوبات في بناء الشراكات الدولية، ومعالجة قضية الديون ووفاء البلدان المتقدمة بوعودها بزيادة مساعدات التنمية وترشيدها وتلبية احتياجات اللاجئين والنازحين.
- تحديات الأمن والسلام: إذ أثرت النزاعات المسلحة وحالات عدم الاستقرار في البلدان العربية،
بما في ذلك عمليات مكافحة الإرهاب، سلباً على عملية التنمية بجميع أبعادها. وأدت النزاعات في عدد من البلدان العربية إلى انهيار مؤسسات الدولة وتدمير البنى التحتية وتمزّق النسيج الاجتماعي. وتحوّلت أولويات الإنفاق والدعم وعمل المؤسسات، بسبب موجات اللجوء والنزوح القسري، من مشاريع التنمية إلى أعمال الإغاثة والمساعدات الإنسانية. - تحدّيات التحول السياسي والمؤسسي: يضع التحوّل السياسي عدداً من الدول العربية أمام تحدي إعادة التوازن إلى العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبناء ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة وأجهزتها، وتأمين المشاركة الفاعلة، وتحقيق التنمية والمساواة، وتحصين الاستقرار. ويشكل ضعف المؤسسات تحدياً آخرَ يطال مختلف مجالات التنمية المستدامة، فهي تعاني من قيود سياسية ومالية وتقنية تُقوض فعاليتها.
- تحديات اجتماعية واقتصادية: حسب دراسة للإسكوا حول مستقبل التنمية في المنطقة العربية، يعيش خُمس سكان المنطقة تحت خط الفقر، وتبلغ معدّلات البطالة فيها أعلى المستويات ولا سيما بين الشباب. وهناك ارتفاع في مستويات الدين العام، وانخفاض في معدلات إنتاجية اليد العاملة، وتقلص تغطية الحماية الاجتماعية لأكثر الفئات انكشافاً على المخاطر. ولا يزال يشكّل موضوع المساواة بين الجنسين وتمكين النساء والفتيات أكبر التحديات الاجتماعية في البلدان العربية.
أولاً، تعزيز قدرة الدول الأعضاء على معالجة الأسباب الجذرية للنزاعات وتحليل أثرها على التنمية والتخفيف من تداعياتها الجانبية وتطوير ُنهج وطنية وإقليمية للتصدي لآثارها غير المباشرة والطويلة الأمد
تعمل الإسكوا بالتعاونِ مع الدول الأعضاء على دراسةِ آثار النزاعات الدائرة في المنطقة على التنمية وأثرها كذلك على الأجيال المقبلة. ويجري التركيز تحديداً على فهمِ الوجهاتِ التي من شأنها أن تؤجج حالات النزاع في المستقبل، وتستنزف رأس المال البشري، وتضعف مؤسسات الدولة، وتساهم في ارتفاع بطالة الشباب وتعرضهم للجنوح نحو العنف والتطرف. وتعمل الإسكوا أيضاً على تعزيز التعاون فيما بين الدول الأعضاء بشأن هذه القضايا المشتركة وذات الأولوية على المستويين الوطني والإقليمي.
ثانياً، تسهيل قيام منابر حوار تقنية دائمة وطنية وإقليمية تجمع الشركاء في التنمية لدعم عملية بناء السلام بعد النزاع
لا تملكُ الحكومات في فترةِ ما بعدَ النزاع مستلزماتِ التخطيط على المدى الطويل، إذ تنشغل في تلبية الاحتياجات العاجلة. غير أن الانشغال في تلبية الاحتياجات الآنية دون رؤية إنمائية أوسع نطاقاً يعني سياساتٍ غيرِ متسقة، بل متناقضة، لا توفرُ أدواتِ التنمية الاجتماعية والاقتصادية الوطنية، التي تساعد على نهوض المجتمع ما بعد النزاع وبناء المصالحة ومنعِ الانتكاس والعودة إلى النزاع مجدداً.
ولهذه الغاية، أطلقت الإسكوا آليات للحوار تهدف إلى التوصّل إلى نهجٍ شامل ومتعددِ القطاعات وتشاركي لمعالجة قضايا الحوكمة، والتحديات الاجتماعية والاقتصادية، ولتمكين أصحاب المصلحة الوطنيين من وضعِ حلول وتصميم إصلاحات حسب خصوصياتِ بلدانهم.
المحور الثالث، تعزيز القدرات الوطنية والإقليمية للتخفيف من أثار الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني والمنطقة العربية
ليسَ من السهلِ الإلمامِ بالتأثير المُدمّر والمتراكمِ للاحتلال الإسرائيلي وسياساتِه وممارساتِه على الشعب الفلسطيني وعلى الاقتصادِ والمجتمعِ والبيئةِ والتنميةِ في المنطقة. فهذا التأثيرُ لا يقتصرُ على تفاقمِ الفقرِ والبطالةِ، مع استمرار إسرائيل في سياساتها المُخالفة للقانون الدولي، من مصادرة حوالي 20 في المائة من أراضي الضفة الغربية المحتلة وبناء المستوطنات والجدار الفاصل إلى إعاقة حركة الفلسطينيين ومنعهم من الوصول إلى قرابة 68 في المائة من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. لقد تدهورت نتيجة لذلك الأوضاعُ الصحيةُ والتعليميةُ والمعيشيةُ تدهوراً خطيراً. وازدادَ عدد الفلسطينيين في الأرض المحتلة الذين يعتمدون على مساعداتٍ غذائيةٍ من الأونروا أكثر من عشرِ مرات، من 80,000 شخص في عام 2000 إلى حوالى المليون في عام 2016، ويعاني أكثرُ من نصف الفلسطينيين تحت الاحتلال من انعدامِ الأمن الغذائي. ويعيشُ قطاعُ غزة أسوأ هذه الأوضاع حيث أدى التأثيرُ المُركّب للاحتلال والحصار والعمليات العسكرية إلى تدمير الاقتصاد. وفي عام 2015، تدنى الناتج المحلي الإجمالي للفرد إلى ما دون مستوى عام 2000، وارتفع معدل البطالة إلى ما يناهز 42 في المائة في عام 2016. أما اللاجئون الفلسطينيون، الذين تنكر إسرائيل حقهم في العودة إلى أرضهم، فيعيش 3.5 مليون منهم في بلدانٍ مجاورة، معظمُهم في مخيماتِ اللجوء في ظروفٍ مأساوية.
وقد عملت الإسكوا بالتشاورِ مع المؤسساتِ الفلسطينية، في أنشطة مختلفة بهدف الإضاءةِ على آثارِ الاحتلال على التنمية في فلسطين وفي المنطقة؛ وتعزيز قدرةِ المؤسسات العامة والمدنية لتخفيفِ تداعيات الاحتلال على تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030.
وفي الختام، أودَ التأكيدَ على أن أهميةِ التنميةِ في بناءِ المجتمعاتِ لمرحلةِ ما بعدَ النزاع. وليست خطةُ التنمية المستدامةِ لعام 2030 وصفةً مفروضةً على الدول، بل هي إطارٌ عامٌ، تسترشدُ به كلُ دولةٍ على حدةٍ في صياغةِ سياساتِها وخططِها للتنمية المستدامة حسب ما تتفردُ من خصائصَ وأولوياتٍ وتحدياتٍ. ونجاحُ التنميةٍ يتطلبُ تعزيزَ الشعورِ بالمُلكيةِ الوطنيةِ لخطة التنمية المستدامةِ؛ ونشرَ الوعي بأهدافِ التنميةِ المستدامة وبأهمية المشاركةِ الديمقراطيةِ للمواطنين على جميعِ المستويات، لتصبحَ أهدافُ التنميةِ المستدامة ومستلزماتها جزءاً من وعيِ الأفراد والمجتمعات وفي صلبِ طموحاتهم.