تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

اليوم العالمي للمرأة 2017

6 آذار/مارس 2017
بيروت، لبنان



العاشرة ليلاً، في المطر، يدق ضابط الاحتلال الإسرائيلي باب وصال، أم نبيل، من قرية دير غسانة شمالي رام الله. يطلب منها تسليمه ولديها. يقول إنه جاء لاعتقالهما، ثم يضيف: "ألبسيهما جيداً في هذا البرد، لن تريهما مرة ثانية." تجيبه وصال: "سأراهما، وسيكبران وسيتزوجان وسيرزقان بالأولاد والبنات، أما أنت فلن يحول عليك الحول".  كان هذا عام 1982، ووصال تحكي هذه القصة اليوم، وحولها ولداها وأحفادها، ولا ندري ما مصير الضابط.
معالي السيد جان أوغاسبيان، وزير الدولة لشؤون المرأة في لبنان
الفنانة القديرة السيدة ماجدة الرومي،
أصحاب المعالي والسعادة،
الزميلات والزملاء،

الحضور الكرام
بهذه الحكاية التي تجسد صلابة نسائنا حتى في الملمّات، أبدأ كلمتي في اليوم العالمي للمرأة. وخطابي إليكم اليوم هو الأخير من على هذا المنبر. ومن يخبر العمل الرسمي في بلادنا، مثلي ومثل الكثيرين منكم، يعلم أنه يقترب من الحرية كلما ابتعد عن السلطة وتخلص من رقابة ذاتية يفرضها على نفسه، لا خوفاً، بل حرصاً على
زملائه ومؤسسته. يصبح حراً أن يختار، وأنا، مثل وصال والكثيرات غيرها، أختار الأمل.
أختار الأمل بالرغم من توحش الظلم في منطقتنا، أو ربما بسبب توحشه. 
والظلم، في المطلق، ليس جديداً على ناسنا، إلا أن بلوغه هذا المبلغ، وعمومه هذا العموم، غير مسبوق في تاريخ العرب الحديث.  لقد تعايشنا لعقود مع أشكال مختلفة من الظلم كالفقر والعوز والفساد والحرمان من فرص العيش الكريم، والحكم على غير رضاً من المحكوم. ولكن ما بدأ ضيقاً تقبلناه على رجاء الفرج تطور إلى اختناق مطبق لا بقاء معه. وتعلمنا مع الأيام أن القبول بالظلم يغري الظالم بالمزيد، وأن من يقبل بالسيء خوفا من الأسوأ، يبتلَ بالسيء ثم بالأسوأ فالأسوأ.
في وطننا العربي اليوم، دول تتصدع تحت وطأة نزاعات معلنة، ودول على وشك التصدع تحت وطأة نزاعات كامنة لا تقل عن المعلنة شراسة. ضحايا بالملايين. أطفال ينتزعون من مقاعد الدراسة ويلقون في ساحات المعارك. نساء تستباح حياتهن. والناس يخيرون بين أن يباعوا في أسواق النخاسة، أو أن يعدموا في المعتقلات؛ بين أن يجوعوا في السجون حتى الموت، أو أن يقضوا تحت البراميل المتفجرة أو القذائف الموجهة، أو المصفحات وهم معتصمون في الميادين.
والمرأة تعاني كل هذا الظلم كما الرجل، ثم يقع عليها ظلم وتمييز لأنها إمرأة. تمييز في قوانين لا تنصفها في حقوق الزواج والطلاق وحضانة الأطفال، وحرية التنقل وحق الملكية. تمييز وتهميش في سوق العمل، يحرمها من فرص متساوية في الوظيفة وإن تساوت في التعليم. عنف داخل المنزل وعنف مؤسسي يصيبها كونها امرأة.  
وفي الدول المنكوبة بالنزاعات، كسوريا والعراق وليبيا واليمن، تعاني المرأة من الظلم الذي يضرب مجتمعاتها من قتل وتدمير وتشريد واتجار بالبشر، وتتحمل فوق ذلك ظلماً تفرضه عليها تلك المجتمعات، تسلبها مقومات الحياة، وتأتمنها على استمرار الحياة. في هذه البقعة الصعبة من الأرض، يذهب الرجال ليتداولوا الموت بينهم، ويبقى عليها هي أن تلملم الجراح، أن تربي أطفالها وتعلمهم، أن تصنع بيديها عيشاً مؤقتاً، على أرض مؤقتة، بين قصفين في بيت مهدم، أو بين ترحيلين في خيمة أقيمت على عجل.
أما فلسطين، فالظلم الذي يقع على أهلها فريد. طردوا من بلادهم وحرموا من حقهم في تقرير مصيرهم، ولو جزئيا. وحتى اليوم تصادر بيوتهم وأراضيهم، وتقام عليها مستوطنات لغرباء أتوا من وراء البحر. يخضعون للأحكام العسكرية، والاعتقال الإداري الطويل، والقتل العشوائي خارج القانون. ومن ينج من هذا كله يعش ليعاني نظام تفرقة عنصرية يعاقبه على عرقه ولغته ودينه، ويترك للعسكر الغزاة أن يحددوا له نصيبه من الأرض والسماء.
الحضور الكرام،
كنت أرجو أن أقول لكم، في آخر كلمة لي من على هذا المنبر، إن فرجاً قريبا سيأتي. ولكن ما نرى ينذر بأيام قد تكون أكثر ظلماً، أيام تباعد بيننا وبين مبتغانا.
فبينما يرفع اليمين المتطرف رأسه في العالم، وينسق حكام غريبو الأحكام والأطوار تدخلهم في بلاد العرب، ينقسم العرب على أنفسهم، في فتنة مذهبية زادت سنوها الست على سنوات الفتنة الكبرى الخمس.
في زماننا الصعب هذا، أهم إنجازات البشرية في خطر.  العمران تدمره الحروب. التعايش بين فئات المجتمع تنال منه العنصرية المتصاعدة والطائفية. الانفتاح على الحضارات تقوضه العودة الى العصبية، والحياة على هذا الكوكب يهددها الطمع ونقض المعاهدات التي تحافظ على البيئة وتحمي من تغيّر المناخ. وهذه كلها خسائر كبيرة، لكن أكبرها، في اعتقادي، سيكون في خسارة الإنجاز الأخلاقي الذي دفعت البشرية تاريخاً من الدماء لإحرازه.
سنجد من يبرر لنا التخلي عن حقوقنا وعن الأخلاق والقيم لضرورات المرحلة. سيقولون لنا حاربوا العالم لأنه يستهدفكم. سيدّعون أنه عندما تكون الأوطان في خطر لا مكان للحديث عن المساواة أو حقوق المرأة. سيقولون لنا أن قليلاً من التعذيب أو قتل الأبرياء أو تجويعهم ليس جريمة لأن فيه منفعة للأكثرية ولاستقرار البلاد.  وسيحثوننا على القبول بإسرائيل دولة يهودية تميز بين الناس على أساس الدين لأن هذا ما تمليه موازين القوى.
أما أنا فأقول لكم: إن هذه الأصوات تستدرجنا وتستدرج أصحابها إلى الهلاك، تنصحنا بعلاج حروقنا بالكي. إن في الدعوة للانعزال عن العالم ومحاربته ضرراً بالغاً لنا وللملايين الذين يقفون بشجاعة في الغرب في وجه متطرفيهم الداعين إلى معاداتنا وشن الحروب علينا. وإن مواجهة التطرف المعادي للإسلام والعرب في بلدان الغرب تبدأ بإنهاء النزعات الطائفية والنزاعات الأهلية في بلداننا وتتعزز بالتحالف مع مواطنين في تلك البلدان، باتوا يخافون على أنفسهم وأوطانهم من هذه الفاشية الجديدة.
أما القبول بإسرائيل دولة دينية يكفي المرء أن يكون يهودياً ليكون مواطناً فيها، ففيه انتهاك فاضح لمبدأ المساواة بين الناس. وهو لن يجلب الأمن والسلام كما يُدّعى، بل سيهدد المنظومة السياسية الإقليمية برمتها، ويولد تيارات تدعو إلى إعادة رسم الحدود جميعاً على أساس الدين. والحل الإقليمي الذي بات يروَّج له والذي يقضي بالضغط على أطراف إقليمية للتنازل عن حقوق الفلسطينيين والعرب، بل وعن الحق الإنساني العام في المساواة وعدم التمييز، فلن يؤدي إلا إلى نكبة ثانية قد تكون أشد هولاً وأبعد أثراً من الأولى. وهو لن يمنح الشرعية لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي بل سينزع الشرعية عن تلك الأطراف الإقليمية المتواطئة معه.
الحضور الكرام،
إن إنجازنا الحضاري كله، بل بقاءنا الآمن على هذه الأرض، مرهون بقدرتنا على منع هذا التآكل الزاحف على مبادئ وقيم، مثل العدل والمساواة وعدم التمييز، ارتضيناها لأنفسنا وأسسنا عليها شرعتنا الدولية. وإن كان التدهور المادي مؤلماً الى حين، فما يحدثه السقوط الأخلاقي من دمار للبلدان والمجتمعات لا يُشفى بعد حين، بل يأتي على أسس العيش المشترك ومقوّمات استمراره.
أصحاب المعالي والسعادة،
إن كان الظلم الشديد مدعاة لليأس، فالظلم الأشد لا يترك للمظلوم بداً من الأمل، لأن المرء قد يسلم نفسه لليأس طلباً للراحة، ولكن المرأة تحديداً لا يسعها أن تستريح في يأس يسلم أولادها للهلاك.
أدري أن الأمل في مثل هذه الظروف يصبح ضرباً من الخيال، ولكن شيئاً ما في الطبيعة البشرية يتشبث بالحياة مهما بدا احتمالها صعبا واحتمالاتها ضئيلة. واليأس ترف لا نملكه، فالمصير الذي نقرأه لغدنا إن تقاعسنا لا يترك مجالاً للتعايش معه. وكلي ثقة أن شعوبنا لن تعجز عن مقاومة مثل هذا المصير. فلهذه الشعوب تاريخ حافل في مقاومة الاستعمار والاستبداد، وفي السعي الدؤوب إلى الحرية، حرية الأمة من تعدي الغير، حرية المجتمع من تعدي الدولة، حرية الفرد من تعدي المجتمع بذريعة الهوية أو الاعتقاد أو الجنس.
لقد رأينا في شوارعنا ملايين الشباب، نصفهم نساء مثل وصال، لا يملكن إلا ذلك الأمل العنيد، يقلن لأصحاب القيود، صانعيها وواضعيها: سنرى نساءنا وقد تحررن، سنراهنّ يبنين مع الرجال أوطاناً مزدهرة، عصية على كل ما ينتزع منها الحياة. سنرى أولادنا، وسيكبرون وسيتزوجون وسيرزقون بالبنين والبنات. أما قيودكم فستزول لا محالة.
 
 
 

الأمين التنفيذي: