تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الثورات العربية: قاطرة للنهوض بالمرأة أم عثرة جديدة على دربها

24 نيسان/أبريل 2012

كلمة معالي الدكتورة ريما خلف

وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للإسكوا

الثورات العربية: قاطرة للنهوض بالمرأة أم عثرة جديدة على دربها

السادة الحضور الكريم

يسرني أن أكون معكم اليوم في مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية، وأشكر الدكتور عبدالله بوحبيب على دعوته الكريمة لي للتحدث عن حال المرأة في أعقاب الثورات العربية. وهو موضوع بات مصدرَ قلقٍ لشرائح واسعة من النساء في المنطقة العربية، وعنواناً متكرراً في المناقشات الفكرية على الصعيدين العربي والعالمي.

لقد تعالت في الآونة الأخيرة أصوات تحذر من الأثر السلبي لهذه الثورات على حقوق المرأة، ومن خطر التراجع عن إنجازات الماضي. وراحت بعض القوى ولاسيما في الأوساط العلمانية والنسائية، ترسم صورة قاتمة لآفاق النهوض بالمرأة في ظل التغيرات المجتمعية والسياسية التي نتجت عن هذه الثورات. هذه المخاوف ستكون محور حديثي اليوم.

سأتناول بدايةً بعض العوامل التي أسهمت في شيوع الانطباع بتراجع فرص المرأة في حقبة ما بعد الثورة، ومن ثم سأعرض وجهة نظر مغايرة، قد يرى فيها البعض سباحةً ضد التيار الفكري السائد. أطرحها، آملة في أن يؤدي النقاش حولها، وتباين الآراء بشأنها إلى تشخيص أكثر دقة للمشكلة، تمهيداً للخروج بتوافق حول الحجم الحقيقي للتحدي وسبل التصدي له. فهذه ليست قضية المرأة العربية وحقوقها فحسب، وإنما قضية جميع الذين ثاروا من أجل الحرية والكرامة والعدالة. هذه مطالب لن تتحقق إذا ما أخفقت الثورات العربية في بناء مجتمعات يتساوى فيها جميع الأفراد في حقوق المواطنة: رجالاً ونساءً، شيوخاً وشباباً، أثرياء ومعدمين.

كان للمرأة العربية حضور بارز ودور حيوي في جميع الثورات التي هزت العالم العربي منذ كانون الأول من عام 2010، تاريخ انطلاق الثورة التونسية، وحتى الآن. كانت مشاركتها مميزة في النوعية والأثر. كان حضورها فاعلاً في جميع "ميادين التحرير" العربية، علا صوتها مع رفاقها الرجال ضد الاستبداد والقهر، وقد جمعتهم محنة العنف والقمع، وبعدها فرحة النصر.

رغم هذا يقول كثير من المهتمين بشؤون المرأة إن المرأة غائبة عن الترتيبات السياسية الجديدة، وإن التطورات المتسارعة التي تشهدها البلدان العربية لا تبشر بالخير، لا بل ستضرّ بالمرأة وحقوقها ومكتسباتها. وإن كنت لا أتفق مع طرح يوغل في التشاؤم، فأنا أثق بأن وجهة نظر كهذه لم تكن لتصدر عن جهات عرفت برصانتها، ما لم يكن هناك أسباب موجبة لها.

1- دواعي القلق: الجانب القاتم من الصورة
بتقديري يمكن تفسير انحسار موجة التفاؤل التي عمّت المنطقة على أثر الانتفاضات، وتزايد الشعور بالخطر على حقوق المرأة العربية بأربعة عوامل متداخلة هي: ارتفاع منسوب التوقعات والتطلعات الشعبية في أعقاب الانتصار الأول للثورة، والتهميش النسبي للمرأة في بعض الترتيبات السياسية الانتقالية، والصعود الملحوظ للتيار الإسلامي على المشهد السياسي، وارتفاع أصوات متشددة تطالب بالتخلّي عن المكتسبات التشريعية التي حققتها المرأة في ظل الأنظمة السابقة.

أولاً، بالنسبة للتطلعات الشعبية، ليس غريباً أن يسود جو من التفاؤل المبالغ فيه في أجواء النصر الأولى. فالتجارب المماثلة التي مرت بها دول أخرى فى أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا تُظهر أن روح الانتصار تولد شعوراً عارماً بالقدرة على إحداث تغيير سريع وفوري يؤدي إلى معالجة مشاكل المجتمع المزمنة، ومنها قضايا المرأة.

وإن كانت هذه التطلعات والآمال مشروعة، فهي تتجاهل جسامة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تحتاج معالجتها إلى فترات طويلة، وتغفل حجم الإصلاح المطلوب نتيجة الخراب الذي يراكمه الحاكم السلطوي خلال حكمه وأثناء رحيله. وعندما تنقضي الشهور الأولى للثورة دونما تحسن ملموس في حياة المواطنين، بل تسوء الأوضاع المعيشية في بعض الحالات، من الطبيعي أن تتسرب الخيبة إلى نفوس الكثيرين. وتزداد خيبة الأمل هذه عند المرأة، عندما ترى أن قضاياها لا تتصدر أولويات النخب السياسية الجديدة، التي تنشغل بتحصين مواقعها على الساحة السياسية، وتركز اهتمامها على ديناميات إدارة عملية الانتقال إلى الديمقراطية على المستوى الوطني. وهكذا تبدو قضايا المرأة والنهوض بها وكأنها تراجعت إلى مرتبة ثانوية في برامج العديد من الحكومات والبرلمانات.

ثاني دواعي القلق هو تهميش المرأة في بعض الترتيبات السياسية الانتقالية التي تلت الثورات الشعبية، حيث تدنت أعداد النساء في الهيئات الحاكمة ما بعد الثورة في ليبيا ومصر. ففي ليبيا غُيّبت المرأة عن المراكز العليا في المجلس الوطني الانتقالي (عُيّنت في المجلس إمرأة واحدة ولم تعين أي امرأة في منصب وزاري). وفي مصر لم تضمّ اللجنة التي شكلها المجلس العسكري لتقديم مقترحات لتعديل الدستور أي امرأة. ولم يتجاوز عدد النساء في المجلس الاستشاري الذي شكله المجلس العسكري الثلاث نساء.

ثالث هذه العوامل، وفي تقديرى أهمها، هو صعود الإسلام السياسي، حيث فازت الأحزاب الإسلامية بأكثرية المقاعد البرلمانية في كل من تونس (40 في المائة ) والمغرب (26 في المائة)، وبالغالبية في الانتخابات المصرية (72 في المائة). ومع تصاعد نفوذ الأحزاب الإسلامية، وإما بسبب عدم إفصاح هذه الأحزاب عن رؤيتها الاجتماعية بصورة كاملة، أو عدم الثقة بالتطمينات والوعود التي قدمتها بعض هذه الأحزاب، كثرت المخاوف من أن يؤدي تنامي دورها إلى تقييد الحريات الاجتماعية، وحقوق المرأة وحرياتها خاصة.

• أخيراً، يأتي التهديد بالتخلّي عن بعض التشريعات المتعلقة بحقوق المرأة ليزيد من هذه المخاوف. ففي مصر،على سبيل المثال، صدرت تصريحات عن شخصيات قيادية ممثلة لبعض التيارات الإسلامية طالبت بإلغاء بنود هامة في قانون الأسرة، وبخاصة تلك المتعلقة بـ"الخلع"، وسن الزواج للفتيات. وفي ليبيا، جاءت تصريحات مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الوطني، عن السماح بتعدد الزوجات لتؤجج مخاوف النساء حيال نوايا النخبة السياسية الجديدة. ويبدو التخوف من أن يلجأ بعض السياسيين الساعين إلى كسب التأييد الشعبي إلى تبديد بعض المكتسبات في حقوق المرأة، تخوفاً مشروعاً.

ولتبرير هذه الخطوات يلجأ البعض إلى إلصاق موضوع حقوق المرأة بأنظمة الاستبداد البائدة. ومما ييسر لهم هذه المهمة أن تلك الأنظمة كانت قد استخدمت فعلاً قضية تمكين المرأة لتبييض صفحتها والظهور بمظهر الأنظمة المؤيّدة للحداثة والإصلاح أمام حلفائها الغربيين الذين طالبوها، وإن شكلاً، بإجراء إصلاحات ديمقراطية. وبالتركيز على تعيين امرأة هنا وأخرى هناك، نجحت الأنظمة العربية في تهدئة هذه العواصف دون إجراء أي إصلاح حقيقي في نظم الحكم. فقد كان الاعتراف ببعض حقوق المرأة الصفقة الوحيدة الرابحة لتلك الأنظمة، فهي تدخلها في عداد الأنظمة الإصلاحية دون المخاطرة بإضعاف احتكارها للسلطة وهو شغلها الشاغل.

ومن المفارقات التي تستغلها بعض القوى الآن أن هذه الأنظمة قامت باستخدام آليات القمع السياسي في بعض الأحيان لتحقيق بعض المنجزات للمرأة، والتي ربما ما كانت لتتحقق لو ترك الأمر للحركة المجتمعية المتأثرة بالقيود الموروثة.

ومما أضر بقضايا المرأة أن الأنظمة الاستبدادية كانت قد جعلت من النهوض بالمرأة المشروع الخاص للسيدة الأولى، فارتبطت باسمها الآليات الوطنية الرسمية المعنية بالمرأة والتشريعات المتعلقة بها. وهكذا استقر في الوعي الجماعي لشعوب المنطقة أن هذه الآليات التي حملت لواء حرية التجمّع والإصلاح ليست سوى آلية من آليات الاستبداد ووسيلة ينتهك بواسطتها الغرب التقاليد والثقافات المحلية.

هذه العوامل مجتمعة ساهمت -بلا شك- في إشاعة جو من التشاؤم حيال فرص النهوض بالمرأة في أعقاب الثورات العربية. لقد بدأت الآمال الكبيرة التي أطلقتها الأيام الأولى للانتفاضات الشعبية تتبدد على صخرة واقع جديد يغلب عليه عدم اليقين ويصعب على الكثيرين التنبؤ بمساره ومآله.

2- دواعي التفاؤل: الجانب المضيء من الصورة

إلا أن العوامل التي دعت البعض إلى هذا التشاؤم، لا تشكل إلا جزءاً من صورة هذا الواقع الجديد. وقبل إصدار حكم قاطع بشأن أثر الثورات على تمكين المرأة العربية، لا بد من التدقيق في صحة هذه المقولات، والنظر في غيرها من الزوايا التي قد تغيب عن الناظر للوهلة الأولى. ومع أن عدداً من هذه المخاوف له ما يبرره، قد يؤدّي التدقيق فيها إلى استنتاج مغاير يخفّف بعضاً من القلق. وسأسوق هنا بعض الاعتبارات التي قد تدعو إلى اتخاذ موقف أقرب إلى التفاؤل رغم الإقرار بالصعوبات التي تواجهها مسيرة الارتقاء بالمرأة العربية، وتلك التي تعترض سبيل الانتقال إلى الديمقراطية، وهي كثيرة.

أولاً، بخلاف الانطباع السائد، وحتى الآن، لا تدل الوقائع في الدول العربية التي بدأت عملية الانتقال إلى الديمقراطية على تراجع في المكتسبات التي حققتها المرأة.

فالواقع أن عام 2011 شهد عدداً لا بأس به من التحوّلات الإيجابية. فعلى سبيل المثال، قرّرت كل من تونس والمغرب سحب جميع التحفظات على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، فكانتا أول بلدين عربيين يبادران إلى هذه الخطوة. وفي تونس، أُقر قانون انتخابي جديد كان الأول من نوعه. فقد كرس التكافؤ بين المرأة والرجل في إلزامه التناوب بين المرشحين الذكور والمرشحات الإناث في القوائم الانتخابية للمجلس التأسيسي.

كما أن المشاركة السياسية للمرأة لم تسجل أي تراجع في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في المغرب وتونس. بل على العكس من ذلك فازت المرأة في المغرب بنسبة 17 في المائة من المقاعد البرلمانية، مسجلة زيادة تجاوزت نسبتها 60 في المائة مقارنة بعدد النساء في البرلمان السابق. وفي تونس حافظت المرأة على حصتها في البرلمان الجديد حيث حصلت على 27,1 في المائة من مجموع المقاعد، وهي أعلى نسبة مشاركة للمرأة بين البرلمانات العربية.

وكثيراً ما يشار إلى مصر للدلالة على إخفاق الثورات العربية في حماية حقوق المرأة، فقد انخفضت حصة المرأة إلى 1,8 في المائة من مجموع المقاعد في الانتخابات الأخيرة. وهنا لا بد من الاعتراف بأن هذا الانخفاض لم ينتج عن التركيبة السياسية التي تلت الانتفاضة، بل يُعزى إلى قانون انتخابي غير متوازن وضعه مجلس عسكري غير منتخب، ألغى الحصص المخصصة للمرأة رغم إبقائه على جميع الحصص الأخرى.

ومع أن القانون نص على أن تتضمن قائمة كل حزب سياسي امرأة واحدة على الأقل، لم يشترط موقعاً للمرأة في هذه القوائم يضمن اختيارها وفوزها. وهكذا وصلت إلى البرلمان إحدى عشرة امرأة فقط، تسع منهن نجحن في الانتخابات من بينهن أربع نساء من حزب الحرية والعدالة الإسلامي، واثنتان بالتعيين المباشر.

ثانياً، (من دواعي التفاؤل) قد يطرح تصاعد الإسلام السياسي تحدياً لكنه لا ينذر بالكارثة كما يسعى البعض إلى تصويره. ففي تونس والمغرب، حيث نجحت الأحزاب الإسلامية في تأليف حكومة بالائتلاف مع غيرها من القوى، التزمت هذه الأحزاب بتعهداتها بعدم المساس بالحريات الاجتماعية. وقد ذهب حزب النهضة التونسي إلى أبعد من ذلك، عندما أعلن أن الدستور الجديد لن يكرس الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع، محافظاً بذلك على الطابع المدني للدولة. وقد لقي هذا الموقف معارضة شديدة من بعض الاتجاهات الإسلامية ولاسيما المجموعات السلفية. ورغم ذلك، ما زالت شرائح واسعة في المجتمع التونسي تعرب عن تخوفها من تصاعد نزعة المحافظة، مستندة في ذلك إلى الاعتقاد بازدواجية خطاب الأحزاب الإسلامية. فهي برأيهم لا تُفصح عن حقيقة ما تضمره.

وهكذا تجد الأحزاب الاسلامية نفسها في مواجهة ليس مع القوى العلمانية فحسب، بل أيضاً مع الأحزاب الإسلامية الأخرى الأكثر محافظة، ومع بعض العناصر "المارقة" في صفوفها. وتشير الدلائل حتى الآن إلى أنها لن تكون بالضرورة أسيرة لقواعدها الحزبية الأكثر تشدداً، بل ستسترشد على الأرجح بالإجماع الوطني في قيادة عملية الانتقال إلى الديمقراطية.
فالأحزاب التي تمثل تيار الإسلام السياسي تعي جيداً ديناميات القوى السياسية الجديدة في الشارع العربي، وقد أتت منه. وهي لا ترغب أن تكون في مواجهة مع الحركات الشعبية الجديدة التي ما زالت قادرة، رغم ضعفها النسبي، على قلب المعادلة السياسية برمتها، عبر لجوئها إلى الشارع. ومن الأمثلة على ذلك تراجع حزب الحرية والعدالة المصري عن التشكيل الأولي الذي طرحه للجنة التأسيسية للدستور بعد أن تصدت له بشدة القوى السياسية الأخرى، وقراره الإلتزام بأحكام القضاء الصادرة بهذا الشأن.

الأحزاب الإسلامية ستحرص على ألا تخطئ التقدير وتتخذ موقعاً يتناقض مع الموقف الشعبي السائد. فهي تدرك أن النصر الانتخابي الكبير لا يعني بالضرورة تأييداً لجميع برامجها الاجتماعية. وتعلم أن جزءاً ليس بيسير من الدعم الذي حصلت عليه، أتى نتيجة لضعف تنظيم القوى الأخرى من ناحية، ولأن كثيرين يرون فيها أحزاباً بعيدة عن الفساد والإفساد، أحزاباً مستقلة عن المصالح الخارجية، ويرون في مسيرتها الماضية نصيراً للقضايا العادلة. وستحرص الأحزاب الإسلامية على الاستماع لصوت الشارع وتطلّعات الشعوب ليعاد انتخابها من جديد.

ومن هذا المنطلق، ستضطر إلى تحجيم توجهات بعض عناصرها التي تسعى إلى المساس بحقوق المرأة بعد أن أصبحت المرأة أقوى نفوذاً، وأعلى صوتاً، وأكثر انفتاحاً على الحركات النسائية العربية الأخرى وعلى العالم. فالإذعان لرغبة هذه العناصر سيؤجج المعارضة للأحزاب الإسلامية ويضعف قدرتها على قيادة عملية الانتقال إلى الديمقراطية. لذلك قد يكون التخوّف من الأحزاب الإسلامية مبالغاً فيه، إذ يغفل التطوّر الذي طرأ على هذه الأحزاب وأدبياتها وممارساتها نتيجة انخراطها بصورة مباشرة في العمل السياسي.

ثالثاً، التحوّل الجذري في موقف المرأة والحركات النسائية. المرأة العربية، كما الجماهير العربية المنتفضة، كسرت حاجز الخوف الذي كان يكبلها ويشل حركتها. فأصبحت أكثر شجاعة وأكثر قدرة على معارضة السلطة المجحفة، سواء أكان على الصعيد السياسي أم على الصعيد الاجتماعي. وخير مثال على ذلك ردة فعل المرأة المصرية على "فحص العذرية" التي أُخضعت له بعض الفتيات اللواتي اعتُقلن في الانتفاضة في مصر. وفي حين يشير البعض إلى هذا الفحص باعتباره دليلاً ساطعاً على التدهور في حقوق المرأة، فهذا الفحص ليس جديداً، بل هو من تركة النظام السابق، وقد ابتكره لترهيب المرأة وردعها عن الانخراط في أيّ نشاط معارض.

الجديد في الأمر هو ردة فعل المرأة بعد الانتفاضة لهذه الممارسة الخبيثة. لقد قررت النساء التداول في هذا الموضوع في العلن، على الرغم من الوصمة التي كانت تجبرهن على الصمت والخنوع في الماضي.
وسميرة إبراهيم- الشابة الجريئة التي كانت إحدى ضحايا هذا الفحص- لم تلزم ركناً مظلماً في حجرتها لتندب حظها السيئ، بل قررت التصدي لهذه الممارسات القبيحة من خلال القضاء. وخلافاً لبعض التوقعات، لم ينبذ المجتمع سميرة إبراهيم، بل حظيت بتأييد واسع من الحركات النسائية والعديد من القوى التقدمية.

لقد ولّدت الثورات جيلاً جديداً من النساء اللواتي لن يتوانين بعد اليوم عن الدفاع عن حقوقهن، حتى ولو استلزم ذلك مواجهة قوة عاتية بحجم قوة المجلس العسكري في مصر. ومما لا شك فيه أن الانتفاضات قد أسهمت في بلورة رؤية جديدة لقضايا المرأة وفي إثارة نقاش بناء حولها في أوساط الرأي العام بشكل أوسع من أي وقت مضى.

وهكذا يمكن القول إننا نشهد ظهور ملامح نموذج جديد لتمكين المرأة. نموذج يستهدف التمكين الحقيقي لها كمواطنة تتساوى مع الرجل في جميع الحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. اليوم لم يعد النهوض بالمرأة يعني تزيين الحكومة أو المجلس النيابي بإمرأة أو اثنتين على غرار الإصلاحات الجوفاء التي تبجحت بها الأنظمة السلطوية. فلا يخفى على أحد أن القيادات النسائية في ظل تلك الأنظمة كانت شبه مجردة من النفوذ حتى وإن تبوأت أعلى المناصب، شأنها في ذلك شأن القادة من الرجال.

أما المشاركة السياسية للمرأة عقب الثورات العربية فهي مشاركة واعية بحقوقها، وواضحة في أهدافها التي لا تقتصر على تحسين وضع النساء بل تتجاوز ذلك لتساهم في تحقيق الانتقال المتكامل إلى الديمقراطية وبناء مجتمع الحرية والعدالة والكرامة.

3- التحدّيات الماثلة
رغم هذه التطورات الإيجابية على صعيد الحكم والمواقف المجتمعية، ما زالت المرأة العربية تواجه عدداً من التحدّيات المزمنة التي لا يمكن التصدّي لها إلا بتضافر جهود الحركات النسائية وقوى التغيير. ومن أهم هذه التحديات استمرار تهميش النساء وتعرضهن للحرمان الشديد من فرص توظيف قدراتهن في العمل السياسي والاقتصادي المنتج. فما زال بعض القوانين ينطوي على تمييز ضد المرأة، وإن بذريعة حمايتها أحياناً. ولا تزال بعض البنى الثقافية والنظم الاجتماعية تنظّر للتمييز بين الجنسين باعتباره من "طبيعة الأشياء" أو الفطرة.

ومع الإقرار بأن الكثير من أوجه التمييز قد أزيلت من القوانين الاقتصادية والاجتماعية في العقود الماضية، لم تتغيّر الأنماط والموروثات السلبية الاجتماعية التي تسوّغ لهذا التمييز بالسرعة ذاتها. وقد عملت هذه الأنماط على تكريس القبول بانتهاك حقوق المرأة أو في أحسن الأحوال على غض النظر عنه.

فالعنف ضد المرأة، ومن أشكاله جرائم الشرف وضرب الزوجات والزواج المبكِّر، لا يزال منتشراً لأن القانون لا يجرمه، ولأن بعض الأوساط الاجتماعية لا تستنكره. ويبدو تعديل التشريع أمراً يسيراً مقارنة بتغيير المواقف والحوافز المجتمعية التي تضع المرأة في مرتبة أدنى من الرجل في الفكر والممارسة.

والنهوض بالمرأة العربية لن يرتقي إلى مستوى الطموح بمجرد إجراءات جزئية، أو تجميلية، رغم قيمتها وأهميتها. فهذه الإجراءات تبقى إجراءات هشة، قابلة للإلغاء في أي وقت وعرضة للمساومات بين القوى السياسية، ما لم تأتِ حصيلة اقتناع كامل وإجماع بين مختلف شرائح المجتمع.

والتمكين الحقيقي للمرأة سيبقى صعب المنال في غياب نهضة شاملة تؤسس لنظم حكم قِوامها القانون والحق، وتعيد بناء المجتمعات على مبادىء المساواة واحترام الآخر وصيانة الحقوق. ومن هنا أرى في مشاريع الانتقال إلى الديمقراطية في بعض البلدان العربية بارقة أمل في تحقيق النهضة المنشودة للأمة والمرأة معاً. فهي إذ تحمل ثمار عقود اجتماعية جديدة، ترتكز على حقوق المواطنة المتساوية، إنما تبشر بانتهاء زمن التمييز والإقصاء والتهميش. غير أن الطريق إلى الديمقراطية –كما تُعلّمنا تجارب الآخرين محفوفة بالصعاب. فالقوى المضادة للثورة، و"فلول" الأنظمة السابقة، والقوى الرجعية ستواصل إعاقة مسيرة التقدّم. وبعض هذه القوى سيستهدف المرأة تحديداً وتمتعها بكامل حقوقها. وستصطدم المسيرة الديمقراطية بمقاومة شرسة من قوى عالمية وإقليمية ترى في وطن عربي ديمقراطي خطراً يهدّد مصالحها. وأنا إذ أثق بأن هذه القوى ستخفق على المدى الطويل في إيقاف مسيرة الحرية في العالم العربي، وأخشى أن تُوقِع الكثير من الضرر في الأجل القصير.

والخطر الأكبر الذي يتهدد المرأة العربية الآن، هو إجهاض عملية الانتقال إلى الديمقراطية أو إفراغها من مضمونها الحقيقي. ومن مصلحة المرأة التصدّي لهذا الخطر أياً كان مصدره والمساهمة في التأسيس لبناء ديمقراطي منيع. فالنجاح هو الضمانة الوحيدة لتحقيق نهضة شاملة تعيد بناء العلاقات على مبدأ الحقوق والحريات، ولاسيما العدالة والمساواة بين الجنسين. وهكذا، تستطيع المرأة مواجهة التحديات الماثلة أمامها، كإمرأة ومواطنة.

وشكراً.

الأمين التنفيذي: