كلمة معالي الدكتورة ريما خلف
وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للإسكوا
في افتتاح الاجتماعات الوزارية للدورة الثامنة والعشرين
معالي وزير الخارجية، السيد منجي الحامدي،
أصحاب المعالي والسعادة،
الحضور الكريم،
أرحب بكم جميعاً، مشاركين وضيوفاً كراماً، في افتتاح الاجتماع الوزاري للدورة الثامنة والعشرين للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا). ويسعدني أن يُعقد اجتماعنا الوزاري هذا في تونس برعاية مقدّرة من فخامة الرئيس السيد منصف المرزوقي. لتونس، رئيساً وحكومة، كل الشكر والامتنان، ولشعبها السباق إلى العلى كل الدعم والمحبة. وأتقدم بالشكر الجزيل من دولة الإمارات العربية المتحدة التي تولّت رئاسة الدورة السابعة والعشرين على مدار العامين الماضيين. كما أرحب بمعالي السيد غانم بن فضل البوعينين وزير الدولة للشؤون الخارجية في مملكة البحرين، والتي ستتولّى رئاسة هذه الدورة، وأتقدّم منه بخالص التمنيات بالتوفيق. وأشكر للدول الأعضاء الحاضرة في الدورة مشاركتَها رغم الصعوبات. مشاركةٌ نلمس فيها تمسكاً محموداً بنهج الحوار والتلاقي، والتزاماً مقدراً بدعم دور الإسكوا الإنمائي في المنطقة العربية.
السيدات والسادة ممثلو الدول المشاركة،
لقد أحسنتم الاختيار عندما قررتم أن تكون "العدالة الاجتماعية" محوراً لمناقشاتنا في هذا اللقاء. فالعدالة قيمة أصيلة في عمق الثقافة العربية والإسلامية. وقد بُعثت مجدداً في السنوات القليلة الماضية، مطلباً ملحاً للشعوب، وغايةً أساسية للسياسات الرسمية. والعدالة حُلمٌ يراود البشر منذ غابر الأزمان. بها تغنوا شعراً ونثراً. حَوْلها حاكوا القصص والسيَر. وشوقاً إليها نظموا الأغاني ورنّموا الأهازيج. شغل الفلاسفة عقولهم بالعدالة واختلفوا في تعريفها. قاربها الناس بوجدانهم فاتفقوا على صورتها وفحواها. رأوها في مجتمع فاضل يسعد فيه الجميع. لكن العدالة كانت للناس أقرب إلى عالم متخيل من واقع معاش. فرأيناهم يبدعون في توصيف غيابها أكثر من تعريف كينونتها. رأوا غياب العدالة في جسد محروق لبائع جوّال؛ في أنين شيخ تُرك وحيداً ينوء تحت وطأة العوز والمرض؛ في بسمة فتاة تغسل الأطباق وترتق الجوارب لإخوة ذكور يتقافزون فرحاً ببداية العام الدراسي. رأوها في كمد لاجئ سُرق منه الوطن والأمل، وفي عيون طفل يبيع الصحف ومستقبله، على قارعة الطريق. غياب العدالة هو أن يقتلع شعب من أرضه لإحلال آخر محله؛ هو أن يقتل الآلاف من الأبرياء وأن تُدك مدنٌ لخمسين يوماً على رأس أهلها، فقط لتمسكهم بحقهم المشروع. هو أن تضطر امرأة إلى الولادة عند حاجز تفتيش لجيش احتلال غاشم، فتقضي هي، أو وليدها أو الاثنان معاً. غياب العدالة هو أن يحرم امرؤ من صوته؛ أن يهمش أو يقتل وذنبه مجرد اختلاف في العرق أو الدين أو الطائفة. العدالة تموت عندما تمتهن كرامة الإنسان، أي إنسان.
الحضور الكريم،
على مدى يومين ستكون العدالة الاجتماعية في بلداننا موضوع بحثنا. سنتدارس حالها، سننظر في تعريفها، سنجتهد في استنباط أنجع الأدوات لقياسها. وأملي أن نتوصّل خلال جلساتنا إلى ملامح رؤية مشتركة نخرج بها إلى شعوبنا والعالم. رؤيةٌ نجدد فيها التزامنا بالعدالة الاجتماعية، قيمة، وعملاً. ننشدها لذاتها، لأنها الأسمى مكانةً في منظومة القيم والأخلاق. ننشدها سبيلاً، لأن بها يتحقق الأمن ورغد العيش؛ وبأفولها، تتفكك الشعوب والأوطان، وتذوي الأمم. لم يغفل أصحاب القرار في منطقتنا موضوع العدالة الاجتماعية، بل حرصوا على تضمين خطط التنمية العربية من الأهداف أرقاها وأسماها. خطط نجحت في تشييد بنى تحتية وفي تطوير أنظمة صحية وتعليمية للجميع، وأفلحت في تحقيق معدلات نمو تغنّت بها منظمات التمويل الدولية. إنجازات جديرة بأن تقنع أي عاقل وتسعد أي قنوع كريم، فلماذا إذاً انتفض الشباب العربي؟ ولماذا آلت أحوالنا إلى ما نحن عليه الآن؟ لا ريب أن الناظر إلى عالمنا العربي اليوم لا يرى الكثير مما يسر العين. قهر وفقر وبطالة تنتزع من قلب الضحية شغف الحياة. حروب إخوة تعيث خراباً في العمران وتحفر الجراح عميقة في النفوس. نزعات إقصائية تتنقل طليقة بين قطر وآخر، وتتفشى آفة تغذي الحقد والتطرف. حركات ظلامية تبث نيران فتنة طائفية تلتهم الأرواح والأرزاق وتنخر جسد الأمة ونسيجها. وطن بأكمله صار أرضاً مستباحة تتجاذبها الأهواء والمصالح من كل صوب.
الحضور الكريم،
إذا كانت التنمية في جوهرها تعني توسيع خيارات البشر، فجهود التنمية في بعض البلدان العربية آلت إلى تضييق هذه الخيارات إلى أقصى الحدود. حصرتها بين السيء والأسوأ؛ بين الصمت على الظلم والسجن؛ بين تقبل الرشاوى والعوز؛ بين الموت قتلاً والنزوح؛ بين جور الدولة وجور غيابها. أخطأنا عندما لم نول العدالة الأهمية التي تستحق. وأخطأنا عندما استهنّا بتبعات غيابها علينا وبالغنا في الثقة بقدرتنا على التعامل مع هذه التبعات. علمتنا تجارب السنوات الثلاث الأخيرة أن الاستقرار الذي يولده التهميش والظلم، هو استقرار هش يسقط عند أول امتحان. فالتخويف من العقاب ينتهي مفعوله الرادع عندما تصبح الحياة ذاتها هي العقاب. رأينا كيف تتحول الاستكانة والخنوع، ما إن يطلّ شعاع شمسٍ، إلى قدرة هائلة على التغيير. جماهير حاشدة ملأت الساحات ورددت دون انقطاع كلمات ثلاثاً. كلمات اختصرت أوجاع شعوبنا وفضحت مكامن قصورنا؛ الحرية، الكرامة، العدالة.
السيدات والسادة،
نلتقي اليوم في ظروف ملتبسة يزاحم فيها اليأسُ الأمل، وتطارد فيها نُذرُ الشؤم بشائرَ الخير. فالقهر الذي أنجب أنقى القوى وأشرفها، دفع بأخرى نحو الضلالة، فانتهجت العنف المدمر للذات وللآخر. وها هو تحالف دولي جديد يتشكل لمحاربتها. وللتحالف هذا علاقة تاريخية ملتبسة مع الإرهاب الذي يريد استئصاله. في حرب أولى أنشأه وموّله ودلّلـه، للقضاء على خطر مشترك. وفي حرب ثانية جلبه إلى أرضنا ووفر له البيئة والأسباب ليتوطن وينتشر. والآن يهلل لحرب جديدة عليه تجعل من سمائنا معرضاً متنقلاً لأحدث الاختراعات من الأسلحة، ومن مدننا مسرحاً لتجربتها. حرب لن تكون الأخيرة ما لم نعمل على حماية أرضنا بأنفسنا برفع الظلم الذي يدفع بالناس إلى الإحباط، فاليأس، فالتطرف. والظلم لا يُرفع إلا بالعدل. والعدل لا يتحقق إلا بالحرية؛ حرية الإنسان في وطنه وحرية الأوطان من الاستعمار والنفوذ الأجنبي. بالحرية والعدالة نبني مجتمعات الإنتاج والكرامة التي تطالبنا بها شعوبنا؛ بالحرية والعدالة نحقق حلم التكامل العربي بما يحمل للعرب من آمالٍ بالنهضة والعزة.
الحضور الكريم،
ما كتب علينا أن نطرد من القرن الحادي والعشرين، ولا كتب علينا أن نجبر على الاختيار بين ظلمات عصر الانحطاط ومهانة عصر الاستعمار. بإمكاننا أن نصنع مستقبلنا بأنفسنا، إن أردنا. وبإمكاننا أن ننهض إذا ما اتخذنا من المعرفة والعلم سبيلاً، ومن العدالة واحترام حقوق الإنسان نهجاً. إن للأرواح البريئة التي تزهق في أقطار عالمنا العربي حقاً علينا. واتحادنا الآن من أجل أمتنا لم يعد ترفاً، بل ضرورة ملحة تمليها علينا مسؤوليتنا الأخلاقية أمام أنفسنا واتجاه أجيالنا المقبلة. باتحادنا نستنبط القوة الكامنة فينا، فننطلق من جذورنا الراسخة إلى مستقبل مشرق ينفض عنا غبار الاستباحة ويحررنا من تبعات العنف والتخلف. مستقبل نرسمه بإرادة شعوبنا وبطموح شبابنا وفكر مبدعينا. من هنا، من تونس، وردة البلدان، أهدانا الشباب يوماً أحلامه شعلة أمل للمستقبل. واجب علينا أن نبقي هذه الشعلة مضاءة.
وختاماً أتمنى لمداولاتكم كل النجاح والتوفيق.