تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

رؤية استراتيجية للتكامل العربي لا تتحقق مقومات التكامل العربي في دول مجزأة: العمل المشترك حماية للمصلحة العامة وضمانة للسيادة الوطنية

07
آذار/مارس
2014
بيروت

في 25 شباط/فبراير 2014، أطلقت الدكتورة ريما خلف، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للإسكوا من تونس تقريراً لافتاً تحت عنوان "التكامل العربية: سبيلاً لنهضة إنسانية" بمشاركة فخامة رئيس الجمهورية التونسية محمد المنصف المرزوقي ورئيس الوزارء اللبناني السابق نجيب ميقاتي وبحضور جمع من القيادات السياسية والاقتصادية والفكرية والشخصيات العامة. وللمناسبة، وُزّع على الحضور وعلى مندوبي وسائل الإعلام الذين شاركوا في مراسم إطلاق التقرير ملف إعلامي نعيد نشر مضمونه على خمس مراحل وذلك لأهمية المواضيع التي يتطرق إليها التقرير.

تقرير "التكامل العربي: سبيلاً لنهضة إنسانية"، دراسة موضوعية شاملة عن مشروع التكامل العربي يصدر في حقبة مصيرية من تاريخ المنطقة. وقد أعدّ بمبادرة من لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، وشاركت فيه مجموعة من المفكرين العرب يجمعهم إيمان عميق بمستقبل هذه المنطقة وحرص على مكانة مستحقة لها بين أمم العالم المتقدم، فوضعوا خبراتهم وأفكارهم في مشروع قد لا يكون الأمثل، ولكن قد يضيء على ضرورة البحث في حل جماعي، يجد مبرره في إخفاق الحلول الفردية.

والرؤية التي يطرحها التقرير هي حصيلة جولة على محطات مرت بها "مسيرة التكامل العربي" في الاقتصاد، والسياسة، والمجتمع، والثقافة، والتضامن الشعبي؛ واستعراض لمقوّمات التكامل الكثيرة في المنطقة وللفرص الضائعة التي أفسحت المجال أمام توسّع مشاريع بديلة "كرست التشرذم والتطرف والفرقة"، وفوّتت الكثير من الفوائد التي يمكن أن تكون في متناول المنطقة إذا سارت مجتمعة في مشروع للتكامل "ينطلق من إرادة سياسية صلبة" وتشارك الشعوب في بنائه بما تملكه من تجارب وطاقات ورؤى.

وفي ضوء التحديات المزمنة والمستجدة التي يشهدها الوطن العربي، يختصر التقرير مغزى "النهضة الإنسانية" بغايات رئيسية ثلاث: صون الحرية والكرامة الإنسانية للجميع، وهذا يستلزم إقامة حكم ديمقراطي صالح وتحرير الوطن العربي من جميع أشكال الاحتلال والنفوذ الأجنبي؛ وإنشاء بنية إنتاجية عربية قوية ومتنوعة دائبة النماء والارتقاء؛ وإحياء الثقافة ذات الفعالية الإبداعية "بإحياء أفضل مزايا الحضارة العربية الإسلامية وإثرائها بأفضل منجزات الحضارة الإنسانية".

ويرى التقرير مقوّمات هذا النهوض في إرادة مستقلة لجماعة الأحرار، وعلم مبدع يخلق معارف جديدة، وقدرة فعلية هي نقيض القدرة الوهمية، وحياة دائمة التجدد تتوفر شروطها بمشاركة الجميع، وقيام ذاتي يتحقق عندما ينهض كيان فاعل يلتقي أفراده حول رسالة معينة.

ويؤكد التقرير "أن هذه المقومات لا يمكن تحقيقها في الدول المجزأة، حيث تتعذر حماية المصالح العامة، ويصعب اكتساب المناعة الضامنة لشروط السيادة والاستقلال، وتشييد بنى اقتصادية تتاح فيها للجميع فوائد التكامل الشامل". لذلك جاء طرح مشروع التكامل العربي من جديد، "شرطاً أساسياً للنهضة و التنمية الإنسانية المتواصلة في كامل المنطقة العربية"، التكامل الذي يُفضي إلى إقامة منطقة المواطنة الحرة العربية، حيث يتمتع كل مواطن بحقوق المواطنة في أي دولة عربية.
ويقترح التقرير مجموعة من التوجهات الاستراتيجية للتكامل الداعم للنهضة، توجّهات تعبر بالوطن العربي من التشتت إلى التكامل ومن الاستباحة إلى المواطنة الحرة والنهضة الشاملة. وترتكز هذه التوجهات على ثلاثة أركان: تعاون سياسي يدعم إقامة الحكم الديمقراطي الصالح؛ وتعميق التكامل الاقتصادي باستكمال تنفيذ الاتفاقيات القائمة واسترجاع مشروع الوحدة الاقتصادية؛ والإصلاح الثقافي والتربوي الذي يكوِّن أشخاصاً مبدعين قادرين على بناء مجتمعات المعرفة.

ويتضمن التقرير مجموعة اقتراحات للدراسة والنقاش بين القوى الحية في الوطن العربي لبحث السبل الكفيلة بتطوير هذه الاستراتيجية وإنفاذها ومتابعتها وتصويبها عند الاقتضاء. "فحتى يسير مشروع التكامل من أجل النهضة من حيز الأفكار إلى حيز الواقع المعاش، لا بدّ من قرار يدعمه اقتناع بالمفهوم وإرادة وإمكانية للتنفيذ".

فللتكامل السياسي الذي ينصب على دعم الحكم الديمقراطي الصالح على الصعيد القُطري، أهمية قصوى في إرساء شروط المناعة وتحقيق التنمية المستدامة. وعلى الصعيد الدولي، "بمقدور التكامل السياسي العربي أن ينجز ما أخفقت في إنجازه الأنظمة العربية منفردة" ليس فقط فيما يتعلق بالقضايا المصيرية كقضية فلسطين، بل أيضاً في حماية المصالح العربية عند وضع الأجندات العالمية المتعلقة بالتنمية، وضمان عدم انعكاس أي من قراراتها سلباً على فرص التنمية في الوطن العربي.

ومن إجراءات الدعم للشعب الفلسطيني إلى أن يحصل على جميع حقوقه المشروعة، يوصي التقرير بالعمل مع المجموعات الناشطة للسلام في العالم، على استصدار قرارات دولية تحظر التعامل مع المستوطنات الإسرائيلية، استرشاداً بما فعله الاتحاد الأوروبي.

وإذا كانت تجارب الشعوب الأخرى في التكامل قد نجحت إلى حد بعيد، كان لا بد من التمهيد لتنفيذ الرؤية الاستراتيجية البعيدة المدى، بإجراءات عملية يمكن تنفيذها على المديين القصير والمتوسط.

ومن الإجراءات التي يقترحها التقرير تقوية شعور العرب بالعيش في أمة واحدة في المكان والزمان بخطوات بسيطة، كتسهيل حصول العرب على تأشيرات دخول إلى البلدان العربية إذا لم يكن بالإمكان إلغاؤها؛ وتشييد البنى الأساسية الميسرة لتلاقي العرب، من شبكات النقل، وآليات مواجهة الكوارث وإغاثة المنكوبين واللاجئين والنازحين، وبرامج بيئية وإعلامية وتعليمية تراعي المجال المعرفي الواحد، وآليات النهوض الثقافي.

ويبين التقرير الثغرات والتحديات في أطر السياسة والمؤسسات العربية الرسمية وعلى رأسها تحديات استقلال القرار، وقصور البنى القائمة على اختلافها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والبيئية، ما يجعل قيام مشروع عربي متكامل أمراً فائق الصعوبة دون المرور بإصلاحات بنيوية وجوهرية، تنتفي معها كل أشكال التعبير البديلة عن الهوية الإنسانية الجامعة.

ويتطرق التقرير إلى إصلاح المؤسسات القائمة لتؤدي الدور المرجو منها في تسوية النزاعات العربية بالطرق السلمية، وتحقيق التكامل العربي دعماً للتنمية الإنسانية في جميع الأقطار العربية.

ولبناء منظومة المعرفة "التي باتت مقياس التقدّم في المجتمعات"، لا بدّ من المرور بإصلاح يطال النظم التعليمية واكتساب المهارات التحليلية وتحسين نوعية التعليم في جميع مراحله وتقييم المتعلمين والمعلمين، وتنشيط التفاعل المعرفي مع الثقافات الأخرى والاستفادة من الكفاءات العربية المهاجرة، وإيجاد آليات لدعم البحث العلمي والتطوير التكنولوجي. فللمعرفة مهام كثيرة في جميع قطاعات الحياة اليومية، في إيجاد بدائل الطاقة المتجددة وصناعة البرمجيات العربية وبناء المحتوى العربي على الإنترنت، بحيث تكون شبكة الإنترنت مصدراً موثوقاً للمعلومات باللغة العربية، تغطي جميع فروع المعرفة، أسوة بلغات أخرى.

والإصلاح الذي يدعو إليه التقرير على محاور عدة لا يستثني الإصلاح الثقافي بما فيه النهوض باللغة العربية وإصلاح الفكر الديني. وقد بات هذا الإصلاح ضرورة "لاستنباط حلول تساعد على التخلص من التبعية من حيث هي بنية فكرية وثقافية، فتخرج الأمة من الصراع السطحي المتردد بين الرفض الانفعالي والتقليد الانفعالي لما أبدعته الحضارات الأخرى أو حتى للماضي الذاتي أو الاثنين معاً". فالإسلام، حسب التقرير، «يتخلّى عن خصائصه الثورية ما لم يكن إصلاحاً دائماً، يتجاوز سطح الأقوال والأفعال للوصول إلى معانيها العميقة".

وما يُقرأ في الإصلاحات التي يقترحها التقرير في السياسة والاقتصاد والثقافة والدين، دعوة ملحة إلى إنهاء الصراع المتصاعد بين دعاة التحديث ودعاة التأصيل، وقد انتهج الطرفان نهج إلغاء الآخر، وأغرقا الأمة العربية في صراع مقيت حاد بها عن مسار البناء الجديد. أما الحل فيراه التقرير فقط في "العزوف عن المقابلة بين الحداثة والأصالة، وعن المغالاة في هذه وتلك، للانتقال إلى الحداثة الأصيلة التي هي عينها الأصالة الحديثة، وتعني توافقاً تاماً بين حقوق الإنسان ومقاصد كل شرع لا تتنافر قيمه مع قيم العقل".

رؤية نافذة وبرامج طموحة يطرحها تقرير "التكامل العربي: سبيلاً لنهضة إنسانية"، مقصد يستحق العناء. واغتنام الفرص التي لا تزال متاحة هو، على الأقل، طريق أسلم من الوقوف على أطلال الضائع منها في الآتي من الأيام.