كلمة معالي الدكتورة ريما خلف وكيل الأمين العام والأمين التنفيذي للإسكوا في افتتاح منتدى الإسكوا الاقتصادي العربي الأول
معالي الوزير مروان خير الدين، ممثل رئيس مجلس الوزراء اللبناني
معالي الوزير رضا سعيدي، الوزير المكلف بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية لدى رئاسة الحكومة التونسية
سعادة السفيرة أنجلينا أيخهورست، سفيرة الاتحاد الأوروبي لدى الجمهورية اللبنانية
أصحاب المعالي والسعادة،
الحضور الكريم،
أرحب بكم في بيت الأمم المتحدة مقر الاسكوا في بيروت، وقد اجتمعنا اليوم للبحث في التحولات الكبرى التي تشهدها منطقتنا وتداعياتها الاقتصادية. فهذا زمن عربي جديد. زمن ولادته صعبة، وطريقه وعرة، إلا ان مآله كثير البهاء. فقد ثار العرب على نظم وطنية وإقليمية وعالمية سلبتهم حريتهم وصادرت سبل عيشهم وشوهت زمانهم ومكانهم في هذا العالم. لقد انتفضوا ضد استبداد داخلي دمر بناهم المادية والرمزية وضد استباحة خارجية انتهكت حرية أوطانهم، واعتبرت التمسك بالحق تهوراً وتحدياً، والدفاع عن الوطن إرهاباً. ثار العرب من أجل غد يتشكل بإرادتهم المستقلة، غد تزدهر فيه الاقتصادات فتوفر العمل اللائق والحياة الحرة الكريمة للجميع. ثاروا من أجل نهضة ووطن حر يتمتع فيه كل مواطن بحقوقه الإنسانية كاملة دون انتقاص أو تحريف.
بعد ما يقارب العامين من انطلاقة الشرارة الأولى للثورة في تونس، بدأت ملامح المرحلة الإنتقالية في دول الربيع العربي تتكشف عن مصاعب يثير بعضها القلق والشكوك لدى كثيرين. فها هي اقتصادات دول الربيع العربي تعاني من بطء في النمو، وانحسار في الإستثمار، وارتفاع في البطالة، ومن عجز متزايد في الموازنة العامة وميزان المدفوعات. ودفع البعض بهذه الصعوبات كبينات على فشل الثورات العربية في تحقيق أهدافها. وأصبحت هذه الصعوبات أداة رئيسية للقوى المضادة للثورة لتعبئة الناس ضد التغيير. واستخدمت دول عظمى مكامن الضعف هذه لابتزاز القوى العربية الصاعدة، مطالبة إياها بالابتعاد عن الحق العربي والفلسطيني واتخاذ مواقف أكثر محاباة لدولة الاحتلال، إسرائيل، كشرط لتقديم العون الاقتصادي والمساعدات المالية.
إن الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها دول الربيع العربي، وإن كانت حقيقية لا تبرر التشكيك في قدرة هذه الدول على تجاوزها. فالإنتقال إلى الديمقراطية هو بطبيعته عملية صعبة تستدعي الهدم كما البناء. وتحيط بعملية التحول من نظام إلى آخر حالة من عدم اليقين تحبط الاستثمار وتعرقل النهوض. ومنطقتنا ليست باستثناء من هذا. فقد مرت بهذه الصعوبات معظم الدول التي شهدت إنتقالاً مماثلاُ. ففي أوروبا الوسطى والشرقية، على سبيل المثال، شهد الدخل الإجمالي انخفاضاً تراكمياً بلغ معدله 28 في المائة قبل أن يستأنف النمو مرة أخرى في التسعينيات من القرن الماضي. وإنطلاقاً من وعينا بصعوبات المرحلة الإنتقالية، نعقد اجتماعنا اليوم لبحث ما يتيحه الفكر الاقتصادي من حلول ولتبيّن آفاق السياسة الاقتصادية المناسبة للمرحلة المقبلة. ونأمل أن تفضي مداولاتنا إلى تعزيز قدرتنا على التصدي للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بما يؤدي إلى طمأنة الشباب بأن الحكومات تعي مطالبهم وتحترم إرادتهم، وتعمل من أجلهم، وتخضع للمساءلة من قبلهم.
الحضور الكريم،
هذا المؤتمر الذي يجتمع فيه المعنيون بوضع السياسات الاقتصادية وتنفيذها، مع خبراء يحملون آخر ما توصل إليه علم الاقتصاد والاجتماع، هو بمثابة ملتقى بين الواقع والمنشود. وحيث من المحال التصدي بالعمق المطلوب لجميع التحديات الاقتصادية ، يركز هذا المؤتمر على محاور رئيسية ثلاثة : هي مكافحة البطالة، وتأمين الحماية الاجتماعية، وتمويل التنمية. وهي محاور يمكن أن تتحوّل إلى مصدر للنمو والاستقرار إن أحسنّا التعامل معها، ويمكن أن تكون مصدراً للاحتقان وللتوتر الاجتماعي إذا أهملناها في خضم مشاغل أخرى وأسأنا معالجتها. فعلينا ألا نغفل أن شرارة الربيع العربي، أنطلقت من رحم البطالة والإقصاء، وقلة الفرص، وضيق الآفاق، وكلّ ما يولّده ذلك من قلق وخوف من المستقبل. وفي معالجة أسباب الانتفاض هذه، مفتاح النجاح في التحول المنشود إلى الديمقراطية.
ورغم توفر فرص العمل وانخفاض معدلات الفقر، في الظاهر على الأقل، في المنطقة العربية خلال العقدين الأخيرين، بقيت الفرص المتوفرة بعيدة عن شروط العمل اللائق، وبقيت قاصرة عن توفير أسباب العيش الكريم للعمال. فقد تحوّلت فئات كبيرة من الشعوب العربية إلى مجموعات سكانية ضعيفة معرضة لخطر الفقر والتهميش. لذلك بات تأمين الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية، وقوامها الصحة والتعليم والتأمين ضد البطالة ومستحقات التقاعد والشيخوخة، يشكل الضمانة الأهم للاستقرار الاجتماعي في هذه المرحلة الدقيقة. وهنا نجد أنفسنا أمام معضلات تتصل بقدرة الدول العربية على توفير فرص العمل المطلوبة، والتي تقدر بمائة مليون فرصة عمل خلال السنوات العشر المقبلة، وبقدرتها على تعبئة الموارد المالية الكافية لتمويل الحماية الاجتماعية.
إن ما نسعى إليه من خلال مناقشاتنا في هذا الاجتماع هو تسخير البحث العملي لعملية صنع القرار، بحيث يكون أساساً متيناً للقرار الاقتصادي والسياسي، وحلقة وصل بين الوسط الأكاديمي بفضائه الواسع، وعالم السياسة وإدارة الدولة بواقعه الملّح، وحدوده الزمنية الضاغطة، وأولوياته المتناقضة، والتي لا تنتظر طويلاً. ولتوجيه المناقشات نحو النتائج المرجوة، أعدت الاسكوا مجموعة من أوراق النقاش، تتضمن مادة تنطلق منها المناقشات في إطار المحاور الثلاثة المشار إليها. ونأمل أن نتوصل في نهاية هذين اليومين إلى مجموعة من التوصيات لصانع القرار السياسي والاقتصادي في الدول العربية، وإلى جدول أعمال للبحث العلمي الاقتصادي والاجتماعي يشكل أساساً للتعاون بين الإسكوا وجميع الجهات المعنية بالعمل الإنمائي في الفترة المقبلة.
وهذا النشاط كغيره من الأنشطة التي سبقته والأنشطة التي ستليه، هو التزام متجدّد من الاسكوا برسالتها الإنمائية، وتمسك بمسؤولياتها تجاه شعوب المنطقة العربية، عبر المساهمة في تقديم تصورات علمية وعملية، لسبل النجاح في اجتياز هذه المرحلة الدقيقة والهامة. وأرجو أن يكون عبوراً نحو الغايات الأسمى التي دفعت بالناس إلى الشارع، أي الكرامة والحرية والعمل الشريف والاطمئنان للمستقبل. فهذه تبدو، في ظاهرها، شعارات اعتدنا عليها، لكنها في الواقع من أبسط حقوق الإنسان في وطنه، حقوق يجرد غيابها أي نظام من شرعيته ومبررات وجوده.
الحضور الكريم،
ندرك أن المد التحرري العربي لم يصل بعد إلى مبتغاه. فما زالت دول الربيع العربي تصارع قوى الثورة المضادة، وأمراض الماضي. وما زالت غيرها تنتهج ممارسات تحرم مواطنيها من جُل حقوقهم، وصلت في بعض الحالات إلى حد التجريد من الجنسية. وما زالت إسرائيل تمعن في انتهاكها للشرعية الدولية ولحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والعودة إلى دياره وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة. رغم ذلك، يجب ألا نحكم على مشروع نهضةٍ فتي بالفشل، بسبب عدم الاكتمال. فالقوى الحية التي أسقطت الاستبداد ذا الجذور الضاربة عميقاً في الأرض، سوف تنتصر، لا محالة. لكن ذلك يتطلب رؤية تنسجم مع الطموح ومع مبادئ الحرية والعدالة، وتوازن بين المطلوب والممكن في ضوء قيود المرحلة الانتقالية. كما يتطلب فكراً وعملاً يستند إلى تقييم دقيق للمشكلات، ويبتعد عن التهوين والتهويل، كليهما.
ختاماً أود أن أشكر لكم جميعاً حضوركم ومشاركتكم، وأخص بالشكر الاتحاد الأوروبي لتمويله هذا اللقاء الهام. كما أشكر الدكتور عبد الله الدردري، كبير الاقتصاديين في الإسكوا وسائر زميلاتي وزملائي على جهودهم الحثيثة لعقد هذا المنتدى، وتوفير سبل النجاح له.
وأتمنى لهذا الاجتماع كل النجاح والتوفيق. شكراً.