تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

إطلاق تقرير الهجرة الدولية

14 كانون الثاني/يناير 2016
بيروت، لبنان



كلمة الدكتورة ريما خلف،
وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للإسكوا
في حفل إطلاق تقرير الهجرة الدولية

الحضور الكرام،

يسعدني أن أرحب بكم جميعاً بمناسبة إطلاق تقرير "الهجرة والنزوح والتنمية في منطقة عربية متغيرة" والذي تصدره الإسكوا بالشراكة مع منظمة الهجرة الدولية، وبالتعاون مع كوكبة من منظمات الأمم المتحدة العاملة في منطقتنا.

إن هذا التقرير فاتح سبيله وأول جنسه، وهو يتضمن تحليلاً معمقاً ومبتكراً للهجرة من بلداننا وإليها؛ ويقدم صورة واقعية، وإن تكن مؤلمة، عن موجات الهجرة والنزوح غير المسبوقة في الحجم، والقسوة. فالأرقام تفوق ما شهدته المنطقة إثر نكبة فلسطين، وتبلغ حداً لم يشهده كوكب الأرض منذ الحرب العالمية الثانية. أفواج يهاجرون اليوم هرباً من الظلم والإذلال أو الموت المحتم، رحلتهم رهان غير مضمون العواقب، قد تنتهي بهم في خيام تعصف بها كل ريح أو في بحار تقتل، أو في قبضة حلقات إجرام لا تتورع عن الاتِّجار بالبشر أو بأعضائهم.

ولكن الهجرة ما كانت دائما هكذا. ففي زمن ليس ببعيد، كان للهجرة وجه آخر، ترحال طوعي يرجو منه المهاجر استزادة في العلم أو تنعماً بعيش أفضل. حركة تكامل بين بلدان شقيقة، بعضها يملك الموارد الطبيعية وبعضها يملك الموارد البشرية. حركة تساهم في بناء اقتصاد البلد المضيف، وتعود بالخير على المهاجر وأسرته والبلد الذي هاجر منه.

الحضور الكرام،

الهجرة في تراثنا ذات معان. فهي قهر ظالم لمظلوم وإبعاد جبري عن الوطن، وهي أيضاً فعل مقاومة اختياري، بداية للتأريخ، وشرط للفتح والعودة. والهجرة، بداية، اغتراب عن البلد المتروك واغتراب في البلد المقصود، لكنها لا تلبث أن تتحوّل فعل تبنٍ وانتماء للبلدين معاً.  وفي تاريخنا كانت الهجرة والتنقل في "أرض الله الواسعة"، الأصل لا الاستثناء. وليس صدفة أن تترافق حرية حركة البشر، ومنهم الصنّاع والعلماء، والفلاسفة والأدباء، مع أكبر نهضة علمية وحضارية شهدتها هذه المنطقة.

لكن "أرض الله الواسعة" تلك لم تكن ذات حدود وأسلاك شائكة وجدران عازلة وضباط وأختام. لم تكن قد تقسمت بخطوط واهية على صفحات الأطالس، يرسمها العسكر الغالب في كل حرب لتفرق بين الأم وولدها، والأخ وأخيه.

وما نراه اليوم من حركات لجوء وهجرة ونزوح مزمنة ومتكررة في أكثر من بلد ليس سوى نتيجة
لما قاسته المنطقة من تبعات الاستعمار والاستبداد، وما جرّته عليها الغزوات الأجنبية والحروب الأهلية.
وفي هذا التقرير محاولة لتقديم فكرة واضحة ودقيقة عن ظاهرة الهجرة في بلداننا، بوجهيها، القسري والطوعي، ومحاولة للتوقف عند أسبابها، وتبيان عواقبها، وصولاً إلى مقترحات للتعامل معها بما يضمن حق المهاجر ومصلحة البلد المضيف.

ومع أن جل الدراسات تبيّن دور العمال المهاجرين في النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في البلدان المضيفة، لا تزال السياسات في الكثير من تلك البلدان تغفل حق المهاجر في الحماية والرعاية. فليس بكافٍ أن تفتح سوق العمل للاستفادة من طاقات المهاجرين، بل يجب أن يترافق ذلك مع قوانين محلية تضمن حقوق الإنسان للمهاجر وعائلته وحرية الدخول والخروج؛ وتضمن له عائداً عادلاً لجهده وظروفاً لائقة للعمل والعيش. والمهاجر يجب ألا يشعر بأنه يستجدي إحسان مضيفه، بل له حق مكتسب بصفته إنساناً. المصالح الضيقة يجب ألا تطغى على القيم المطلقة.

الحضور الكرام،

المواطن العربي اليوم معرض للجوء أكثر من أي إنسان على وجه الأرض بثلاثين مرة. شعوبنا تنزح من بلدان تغرق في الدخان والظلام، ينشدون الأمان في بلدان أخرى بعضها، كلبنان والأردن، يتقاسم لقمة أبنائه مع ضيوفه، ويتحمل ما يفوق طاقته ليوفر لهم حياة، وإن قست. وبعضها الآخر يُسمعنا ما حلا من الكلام عن احترام حقوق اللاجئين، إلى أن يحط أول قارب على شواطئه.

لقد أصبحت مشكلة اللاجئين أكثر إلحاحاً وتعقيداً مع استعار الحروب وتعدد المشاركين فيها والمنتفعين من إدامتها. لم يعد مقبولاً التذرع بضعف الموارد في زمن هدرها على السلاح. ولا تنجع معالجة التبعات دون الأسباب؛ والمساعدات الإنسانية، رغم أهميتها، لا تكفي دون حلول تنهي الصراع المسلح الذي يدفع الأفراد والجماعات إلى الرحيل وتضع حداً لكل سياسة تجعل المواطن في بلاده مجبراً، فيبدو المنفى اختياراً وهو اضطرار، وراحة وهو تعب، وأنَساً وهو وحشة.

الحضور الكرام،

إن خمسة ملايين لاجئ فلسطيني، سواء تلقوا مالاً وتعليماً أم لم يتلقوا، سيشعرون دائماً بظلم لا تشفيه سوى العودة إلى ديارهم التي هُجّروا منها قسراً. قضية طال لهيبُها المنطقة والعالم بأسره. واليوم، نشهد في سوريا فصول مأساة طالت، وأخرجت أكثر من أربعة ملايين مواطن من ديارهم فراراً من ظلم وبغي وعدوان يسقط عليهم من السماء أو ينفجر في وجوههم من الأرض.  وإن بقيت سياسات المعالجة على حالها، للقضيّتين، سيبقى الحل بعيداً وتكبر المأساة.

مشكلة اللجوء التي تضرب مجتمعاتنا اليوم ليست بفعل كارثة طبيعية من براكين وزلازل وفيضانات حتى تقتصر معالجتها على الوسائل الإنسانية.  بل هي بفعل السياسة، ولا حل لها بإغفال دور السياسة.

الحضور الكرام،

يقدم التقرير الذي نطلقه اليوم اقتراحات للجمع بين الإغاثة العاجلة والبحث في الحل السياسي الجذري والشامل. فمسؤوليتنا في هذه المنطقة مضاعفة. علينا أن نحصن دولنا ضد حروب تنتج موجات جديدة من الهجرة واللجوء. وهذا لن يكون إلا بإقامة نظم حكم عادلة تحترم حقوق الإنسان، يتساوى فيها الجميع في حقوق المواطنة. كما علينا أن نتعامل مع مشكلة اللاجئين القائمة الآن بمبدأ المسؤولية المشتركة. فلم يعد من الممكن تركها لمؤسسات المجتمع المدني وجمعيات الإغاثة. على الحكومات أن تتحرك، وأن تحول ما تنطق به من مثل وقيم إلى أعمال ملموسة. من المؤلم أن نرى الأنروا تقلص خدماتها للاجئين تحت الحصار بسبب نقص التمويل. من المؤلم أن ما تلقته الأمم المتحدة في عام 2015 استجابة "لنداء سوريا" لم يتجاوز الثمانية والثلاثين في المائة من الاحتياجات.  وتُسجل هنا لدولة الكويت الريادة في الوفاء بالالتزامات وسخاء المساهمة.

هذه الأمة نشأت على تآخٍ بين مهاجرين نفروا من الظلم، وأنصار تلقوهم بالترحاب والسند، ولم يمنن من أهل المدينة على المهاجرين إيواءهم إلا المنافقون. ومنذ تلك اللحظة المحملة بالرمزية، أصبح التآخي والتضامن والوحدة، لبنة بناء هذه الأمة وحجرها الأساس. وحري بكبار الساسة أن يدركوا معنى هذه القصة التي يحفظها أطفال المدارس، فتتحول من قول يقال، يسمع أو لا يسمع، إلى فعل يُرى. لأن ما دهى هذه الأمة اليوم، أكبر من الكلام.

الأمين التنفيذي: