في 25 شباط/فبراير 2014، أطلقت الدكتورة ريما خلف، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للإسكوا من تونس تقريراً لافتاً تحت عنوان "التكامل العربية: سبيلاً لنهضة إنسانية" بمشاركة فخامة رئيس الجمهورية التونسية محمد المنصف المرزوقي ورئيس الوزارء اللبناني السابق نجيب ميقاتي وبحضور جمع من القيادات السياسية والاقتصادية والفكرية والشخصيات العامة. وللمناسبة، وُزّع على الحضور وعلى مندوبي وسائل الإعلام الذين شاركوا في مراسم إطلاق التقرير ملف إعلامي نعيد نشر مضمونه على خمس مراحل وذلك لأهمية المواضيع التي يتطرق إليها التقرير.
بيروت، 7 آذار 2014 (وحدة الاتصال والإعلام)-- واجه مشروع النهضة الإنسانية في الوطن العربي مجموعة مخاطر وتحديات سياسية واقتصادية وأمنية ومالية، ربما كانت القدرة على تجنّبها أو احتوائها أكبر بكثير لو واجهتها المنطقة كتلة واحدة.
من هذا المنطلق جاء إحياء فكرة التكامل العربي في تقرير "التكامل العربي: سبيلاً لنهضة إنسانية".والمقصود بهذا التكامل، ليس نقضاً للخصوصيات القطرية، ولا عزلة عن سائر مناطق العالم، بل تنسيق كامل في السياسة والاقتصاد كما في جميع نواحي الحياة الثقافية والتربوية.
ويتناول التقرير القيود التي عطلت مسيرة التكامل في نصف القرن الماضي، فيجد أن ضعف التمثيل الشعبي في مؤسسات الدولة، سمح للسياسات أن تبتعد عن إرادة الشعوب، فأتت بأولويات مختلفة عن تلك التي يمليها الواقع. وبغياب الإرادة السياسية للدفع قدماً بمشروعات التكامل العربي، بدت الاتفاقات بن الدول مكبّلة بسلسلة لا تنتهي من القيود، تبدأ بضعف الالتزام ولا تنتهي بعدم وجود آليات للتنفيذ.
ولم تسلم مشروعات التكامل العربي من التدخلات الخارجية التي كان للمنطقة نصيب منها لم يُسمح به في أيّ منطقة أخرى من العالم، وقد سعت قوى أجنبية منذ عقود مضت إلى إجهاض أي محاولة لتحقيق تعاون وثيق بين دول عربية، ناهيك عن مشروع وحدة بينها.
وقد نجم عن عقود طويلة من التشرذم العربي مجموعة ضخمة من المخاطر ليس أقلها الاستباحة الخارجية التي تتخذ أشكالاً عدة تبدأ بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجولان وبعض أجزاء لبنان، ولا تنتهي بانتشار القواعد العسكرية الأجنبية في أكثر من ثلث الدول العربية.
ويقدّر التقرير أن ضرر السياسات الإسرائيلية لا يتوقف عند احتلال الأرض العربية بل يتعدى ذلك، إذ تشكّل هذه السياسات "مصدر خطر دائم على أمن المواطن العربي والمنطقة بأسرها". ويشير التقرير إلى خطر البرنامج النووي الإسرائيلي الذي يبقى خارج الرقابة الدولية، وإلى قيام إسرائيل بدعم الحروب الأهلية وزرع الفتنة بين مكونات شعوب المنطقة سعياً إلى إقامة دويلات طائفية فيها.
ولعل أسوأ هذه السياسات إصرار إسرائيل على اعتبارها دولة لليهود فقط في إحياء لمفهوم النقاء العرقي والديني للدول الذي جلب على الإنسانية أقبح ويلات القرن العشرين. ويشكل هذا المفهوم أيضا حسب التقرير، "خطراً على مفهوم التنمية الإنسانية القائم على الحكم الديمقراطي الصالح في دولة تكون لجميع مواطنيها، وما يقتضيه من مساواة بين جميع المواطنين في الحقوق، وعدم جواز التمييز ضد أحد على أساس الدين أو العرق".
وقد ساهمت الفرقة العربية والفشل في اتخاذ مواقف موحدة إزاء الأزمات والقضايا الكبرى في تدهور الأمن القومي والإنساني، وتشجيع الاستباحة الخارجية للوطن العربي واستدامتها، وفي تغليب تبعية القرار السياسي لقوى خارجية تريد ضمان مصالحها. ويشير التقرير إلى أن التنسيق العربي في مواجهة التهديدات الخارجية والتزام مبدأ الدفاع المشترك، الذي اعتُمد نظرياً منذ زمن، قد بات ضرورة في الواقع مع ارتفاع فاتورة التسلح، وازدياد الانتهاكات للحقوق العربية.
وقد أدى تدهور الأمن القومي إلى استفحال مشاكل اللجوء والتهجير القسري في المنطقة العربية، التي تضم أقل من 5 في المائة من مجموع سكان العالم وأكثر من 53 في المائة من مجموع اللاجئين فيه. وهذا لا يشمل اللاجئين السوريين الذين ارتفع عددهم ليتجاوز في عام 2013 مليوني لاجئ مسجلين رسمياً.
وقد يكون في الخلل الداخلي، أي في ضعف التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغياب الرؤية المتكاملة، تهديد للأمن القومي العربي، قد لا يقلّ خطورة عن التهديد الخارجي. فقد كانت حصيلة عقود من مشروعات التنمية، "تفشي البطالة والفقر والظلم الاجتماعي في الكثير من البلدان العربية". أكثر من خُمس العرب اليوم هم من الفقراء، والمنطقة العربية حسب التقرير، "هي الوحيدة في العالم التي لم تشهد إنجازاً يذكر في تخفيض نسب الفقر في العقدين الماضي". وتتدنى إنتاجية العمل في جلّ البلدان العربية، حيث ما زالت المنطقة تنافس على المرتبة الدنيا بين مناطق العالم في مستوى الإنتاجية.
وما زالت دول عربية عديدة أسيرة الاعتماد المفرط على المعونات الأجنبية، التي كثيراً ما تتحول إلى أداة نفوذ وهدر وفساد وارتهان لمصالح الجهة الممولة. ويشير التقرير إلى أن وجهة استخدام هذه الإعانات في الغالب تكون بعيدة عن التنمية وعن الرقابة والمساءلة. وتتبوأ دول عربية مراكز متقدمة على لوائح الفساد في العالم. وسجلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تضم البلدان العربية، أعلى معدل لتزايد الأموال المهربة والتي تأتت عن طرق غير مشروعة، حيث بلغ قرابة 50 في المائة في السنة. وينتشر في البلدان
العربية النفطية وغير النفطية نمط الاقتصاد الريعي، والذي ينفي الحاجة إلى إقامة بنية إنتاجية قوية ومتنوعة، ويفصم علاقة المساءلة بين الحاكم والمحكوم، ويشوه الحوافز المجتمعية بالحط من قيمة العمل المنتج، ويحبط منظومة اكتساب المعرفة.
ووضع المنطقة اليوم، حسب التقرير، أسير تحديات اقتصادية واجتماعية وبيئية قد يكون من أهم تجلياتها حاجتها في عام 2020 إلى ما لا يقل عن 51 مليون فرصة عمل جديدة، وضرورة الارتقاء بالتنمية، بجميع أبعادها، في ظل معضلة الأمن المادي والغذائي والمائي وندرة الموارد الطبيعية.
ويركز التقرير على هذه الأسباب وغيرها من مخاطر التشرذم وتحديات التنمية الاقتصادية والسياسية، مشيراً إلى غلبة الولاءات الطائفية أو العرقية على الوطنية بسبب غياب الحكم الديمقراطي الصالح المستند إلى مبدأ المساواة في المواطنة وفي الحقوق كافة. وحسب التقرير، "الحرمان من بعض الحقوق لا سيما إذا اقترن بالتمييز ضد فئات اجتماعية أو طائفية أو عشائرية، لا يترك أمام الفرد أو الأسرة إلا البحث عن ولاءات أخرى خارج المواطنة، توسلاً لدرء الظلم والإجحاف". وهذا النمط من الاقتصاد السياسي أهدر، برؤية التقرير، طاقة الشعوب وأدى إلى تراكم الإجحاف الاجتماعي، الأمر الذي ساهم في إشعال شرارة الانتفاضات الشعبية منذرة بالتغيير، مطالبة بالخبز، كما بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
ويضيف التقرير إلى عوامل التأخر الاقتصادي والاجتماعي العربي، فقدان حيوية الموروث الثقافي ما بات يهدد مقومات التطور الاجتماعي والإبداع الحضاري. ومع وأد الإبداع أصبح الموقف يقتصر على رد الفعل على المؤثرات الخارجية، مما أدى إلى التبعية على المستويين الفكري والمؤسي للثقافة العربية الإسلامية. وهذا "ما أصاب الطموحات التاريخية للأمة بما يشبه الكساح وحال دونها وكل إمكانية للتجارب الحية، ومن ثم دونها وكل إمكانية للتجديد والخلق في التاريخ الحديث".
وأدت الأزمة الثقافية إلى تشويه مفهومي الجهاد والاجتهاد فساهمت في إنتاج فئة متطرفة تتبنى تأويلات فقهية متشددة انتهج بعضها العنف المنظم ضد الآخر مما بات يهدد باستفحال النزاعات الداخلية وتفتيت المنطقة على أسس طائفية ومذهبية.
ويخلص التقرير إلى أن التشرذم المانع للتكامل العربي ينسحب أيضاً على النسق التعليمي والتربوي، حيث إن التقدم العددي لم يرافقه تقدم على مستوى الجودة. ويظهر ذلك في مستوى التحصيل العلمي في الاختبارات الدولية.
أما منظومة البحث العلمي فهي أضعف بكثير من أن تساهم في مشاريع التنمية الإنسانية لافتقارها إلى المقومات المؤسسية والبشرية، حيث نصيب العرب من النشر العلمي يقل عن 1 في المائة، كما إن الإنفاق على البحث العلمي والتطوير التقني هو في المستوى الأدنى.
إزاء هذه التحديات، يبدو التكامل العربي من منظور هذا التقرير، حسبما ورد في التمهيد للدكتورة خلف "هدفاً ووسيلة. هو هدفٌ من حيث هو أملٌ وحلمٌ تمكّن من وجدان ملايين العرب، يميزهم جامع تراثي وتاريخي ولغوي، وتُقاربُ بينهم الجغرافيا بما أنعمت عليهم به من تجاور مكاني، وما ابتلتهم به من موقع استراتيجي وثروات أيقظت شهوة الطامعين ففرضت عليهم تحديات فريدة، حري بها أن توحد في أذهانهم الخصم والمصير. والتكامل هو وسيلة. وربما الوسيلة الأهم، لتحقيق نهضة إنسانية تعم العالم العربي".
فكل مغالاة في الخصوصية في هذا الجو من التكامل الطبيعي والتنوّع المثري قد يكون منافياً لمبدأ الحياة.